الثلاثاء، نوفمبر 22، 2011

التقنية القاتلة


بدايةً نبارك لكم أعزائي القرّاء حلول العام الهجري الجديد والعيد الوطني المجيد سائلين المولى القدير أن يعيد علينا هذه المناسبات السعيدة وعمان وقائدها وشعبها يرفلون بالصحة والعافية والأمن والإيمان (آمين). 

لا يوجد خلاف اليوم اخواني واخواتي القرّاء على دور التقنية ونظم المعلومات في نجاح الأعمال وتطورها المستمر. ونعلم جميعاً ايضاً أن للتقنية بعض السلبيات التي قد تنتج من الإسراف في الإستخدام أو من التوظيف الخاطئ والغير مدروس لها. لا تتعدى هذه السلبيات في أسوأ الأحوال بعض الأعراض المرضية أو الآلام الحادة في بعض أجزاء الجسم بالنسبة للمستخدمين الأفراد بالإضافة طبعاً إلى بعض الإخفاقات المهنية والسوقية بالنسبة للمؤسسات. ولكن أن تكون التقنية سبباً رئيساً في موت الناس بالعشرات هو الذي يستوقفنا اليوم لنبحث في الأسباب وربما نعيد النظر في إستراتيجيات إدارة التقنية المستخدمة حالياً وطرق توظيفنا لها.

سقطت في عام 2009م واحدة من أكثر الطائرات التجارية تطوراً في العالم وهي طائرة الخطوط الفرنسية إيربس (A330) في رحلتها رقم 447 متسببة في موت جميع المسافرين وعددهم 228 بالإضافة إلى أفراد الطاقم. الأمر الذي أثار دهشة صناعة الطيران العالمي أجمع بشكل عام وشركة إيربس على وجه التحديد خصوصاً بأن السقوط حدث في أجواء غامضة وبشكل سريع. فالمعروف بأن التقنيات الكثيرة الموجودة في مثل هذه الطائرات كالمقصورة الآلية بالكامل والمحرك الجديد المتطور والأنظمة الآلية المدمجة في مختلف أجزاء الطائرة تغنيك في كثير من الأحيان عن قائد الطائرة في تحديد المسار والتحكم بجميع الوظائف. فنظام الطيّار الآلي في هذه الطائرة يعتبر من أكثر الأنظمة المماثلة تطوراَ في العالم.

نشرت مجلة (Popular Mechanics) تقريراً حول هذا الحدث وأسبابه في شهر أغسطس الماضي بعدما تمكنت الحكومة الفرنسية وشركة خطوط الطيران الفرنسية وشركة إيربس من إنتشال الصندوق الأسود من بقايا حطام الطائرة من أعماق المحيط الأطلسي مع بداية عامنا هذا (2011). تبين أن أسباب السقوط لم تكن إلا في خلل بسيط (ومميت) في بعض المجسات الآلية التي يعتمد عليها قائد الطائرة في توجيه الطائرة والتحكم بها. فقيادة الطائرة اليوم تعتمد بشكل كبير على المعلومات التي تظهرها هذه المجسات وغيرها من الآليات عن الأنشطة والقياسات داخل وخارج الطائرة كسرعة الرياح والإرتفاع مثلاً. الأمر الذي جعل قائدي الطائرة يتعاملون مع معطيات ومعلومات خاطئة تظهرها هذه المجسات العاطلة وبالتالي إلى توجيه وقيادة الطائرة بشكل خاطئ ومميت. فالمعلومات الخاطئة ترتب عليها قرارات خاطئة وبالتالي إلى السقوط المريع.



من جانب آخر وفي تجربة تعتبر الأولى من نوعها في العالم (Mars500)، قامت شركة الفضاء الأمريكية (ناسا) بتجربة محاكاة إرسال ستة أشخاص إلى كوكب المريخ بهدف معرفة تأثير العزلة والتقنيات المستخدمة في حياة رواد الفضاء. فقد قامت الشركة بصنع كبسولة فضائية مجهزة بجميع إحتياجات الطاقم لمدة 520 يوما (أي عام وأكثر من خمسة أشهر) على غرار المقصورة الفضائية المزمع إرسالها إلى المريخ. الهدف هنا هو حجز هؤلاء الستة طيلة هذه الفترة لإكتشاف السلبيات المعنوية والمادية التي قد تصيبهم خلال محاولتهم لقضاء الـ 520 يوماً بعيداً عن كوكب الأرض وكأنهم فعلاً في مهمة لإكتشاف كوكب المريخ. بالرغم من توفر أنواع التجهيزات والتقنيات وأدوات الترفيه، إلا أن النتائج الأولية تشير إلى صعوبة تطبيق مثل هذه المهمات أولاً بسبب العزلة الإجتماعية والملل والتدهورات النفسية التي أصبحت واضحة على هؤلاء الرواد بعد شهور من بداية المهمة. فالتقنية الحديثة والتي قد يعتقد البعض بأنها قد تغنينا عن العالم الخارجي والمجتمع بشكل عام يتبين لنا يوماً بعد يوما فشلها في هذا الجانب.

ليس ذلك فحسب فقد يكون للتقنية الحديثة والإبتكارات أو المشاريع القائمة عليها سلبيات مميتة أيضاً بشكل غير مباشر وغير متوقع. أنظر مثلاً في تطور (أو تدهور) صناعة هيكل الطائرات والسيارات بشكل عام. فقد صحب إرتفاع أسعار الوقود في العالم مشاريع لبناء مركبات أقل إستهلاكاً للوقود وكان الخيار هو إستخدام مواد الكربون المركبة (Carbon Composites) الخفيفة بديلاً للمعادن المعروفة الثقيلة. الأمر الذي أنشأ لنا اليوم طائرات ومركبات مبنية من مواد بقوة الحديد وأقل خفة من الألمنيوم والتي توفر الكثير من الوقود بسبب خفة الوزن. السؤال المهم هنا هو كيف لنا أن نحلل ونتوقع العمر الإفتراضي لمثل هذه المواد الجديدة الغير مجربة مسبقاً والتي قد تتعطل بشكل مفاجئ مسببة حوادث وخيمة؟ فبالنسبة للمواد المستخدمة سابقا كالحديد والألومنيوم، توجد اليوم معلومات كافية عن مسببات الأعطال بالإضافة إلى توفر أدوات القياس المجربة بعكس مادة الكربون المركبة التي لا تزال تحت التجربة والدراسة. كل ذلك وأكثر يضعنا اليوم أمام مفترق طرق على غرار المثل الأجنبي (Better Safe than Sorry)، فإما أن نتعامل مع التقنية الجديدة بتوازن وحسن إدارة وفهم شامل وإما أن نبتعد ونطبق ما هو أسلم وأضمن.