الثلاثاء، يناير 24، 2012

الحكومة الإلكترونية في السلطنة


قام برنامج حوار الشباب الأسبوع الماضي والذي يعرض على شاشة القناة الأولى للتلفزيون العماني بمناقشة موضوع الحكومة الإلكترونية في السلطنة ومدى تطبيقها بين الواقع والطموح. كان لي شرف المشاركة كأحد الضيوف الرئيسيين حيث استمعنا الى آراء الشباب حول هذا الموضوع المهم والذي يعكس نسبيا مستوى نجاح الخطوات التي قامت بها السلطنة في هذا المجال. لذلك أردت اليوم في هذه المقالة أن أؤصل لأمور مهمة يجب علينا جميعا معرفتها وفهمها لنستطيع النهوض بهذا المشروع ومشاريع أخرى مشابهة دون تخبط أو تأخير كما قد يحصل في بعض الأحيان وكما قد يظن معظم الناس. تجدر الإشارة ايضا الى أنه قد تم التطرق لموضوع الحكومة الإلكترونية سابقا من خلال هذا المنبر الأسبوعي في عدة مقالات على هيئة دروس متسلسلة تبين أهم القضايا التي قد تواجه معظم مشاريع الحكومة الإلكترونية في العالم. يمكنكم الرجوع لهذه الدروس الموجودة على المدونة الإلكترونية الخاصة بي والتي بدأنا بنشرها من شهر أكتوبر لعام ٢٠٠٩م.

من أهم ما يجب التنويه له في البداية هو تعريف الحكومة الإلكترونية والذي قد يختلف بين دولة وأخرى وكذلك قد يختلف بين ما هو معلن وما هو ملموس في الواقع. فعند التأمل في اهم البحوث العلمية في هذا المجال اليوم وفي تطبيقات مختلف الدول نجد تباينا في مفهوم الحكومة الإلكترونية، فهناك من ينظر للمشروع من زاوية توظيف التقنية بغض النظر عن فاعليتها كما هو الحال في معظم الدول الإفريقية الفقيرة، فوجود حاسوب واحد في أي مؤسسة حكومية هناك هو بالنسبة لهم حكومة إلكترونية. وهناك من يجد في الحكومة الإلكترونية مشروعا لتحسين الإجراءات وتحقيق المساواة والمحاسبة والشفافية في العمل بغض النظر عن التقنية المستخدمة والتي قد تكون وسيلة لبلوغ هذه الأهداف. أضف الى ذلك انه يمكن الجزم اليوم بأن معظم الدول في العالم لا تسعى لتحقيق التعريف الأشمل للحكومة الإلكترونية والذي يشمل مختلف جوانب العمل الحكومي بما فيه حوكمة الأعمال والقرارات في مختلف أشكال المشروع التي تشمل تعامل الحكومة مع المواطنين والوافدين والجهات التجارية وفيما بين المؤسسات الحكومية نفسها وفيما بين موظفي كل جهة حكومية بمختلف مستوياتهم، وايضا فيما بين الحكومات المختلفة في اقليم واحد او حتى عالميا. لذلك فهناك اسباب وفوائد مرتجاة من هذا المشروع تختلف من دولة لآخرى بحسب نظام الحكم والمستوى الإقتصادي للدولة واستراتيجيتها العامة. الأمر الذي يتسبب في اختلاف مستوى دعم الحكومات المادي والمعنوي لمختلف مراحل مشروع الحكومة الإلكترونية. لذلك في السلطنة نجد أن فكرة المشروع لا تتعدى في الوقت الراهن هدف أتمتة الخدمات الحكومية وتشجيع مختلف شرائح المجتمع على الانخراط في هذا المشروع بما يشمل تأهيل الكوادر وردم الفجوة الرقمية في البلاد وبناء مجتمع رقمي.

 
تأتي بعد ذلك البنية التحتية لقطاع الإتصالات في السلطنة والذي نجد أكثر الشباب مازالوا يشتكون من بطء شبكة الإنترنت خصوصا في المناطق البعيدة والقرى النائية، مما يشير الى أن البنية التحتية لا تزال في طور التطوير. لذلك على الجهات الحكومية المعنية دعم جهود شركات الإتصالات وحثهم على توصيل خدمات الإنترنت المحمول ذو النطاق الواسع (Broadband) الى مختلف المناطق في السلطنة بمختلف قراها وإن لم تتبين جدواها الإقتصادية في الوقت الراهن. الأمر الذي يأخذنا الى موضوع آخر وهو البعد الإستراتيجي لمشروع الحكومة الإلكترونية. فجدوى هذا المشروع لا تقتصر على الفوائد المرجوة خلال السنوات القليلة القادمة ولكن يتعداه لسنين طويلة قادمة. فما قد يكون غير ذي جدوى اقتصادية اليوم أو خلال السنوات الخمس القادمة، هو بكل تأكيد سيكون ذا فائدة في الأمد البعيد عند ازدياد الوعي بالخدمات الإلكترونية وزيادة عدد السكان وحاجاتهم من قطاع الإتصالات الذي تعتمد عليه ايضا بقية القطاعات الحيوية في البلاد. أضف الى ذلك أن السلطنة مقبلة على طفرة في الاستثمارات الإقتصادية والتي لا تقتصر على العاصمة مسقط بل تتعداها الى مناطق قد تعتبر نائية اليوم كالدقم مثلا ومناطق الجذب السياحي كجبال محافظة مسندم وجبال محافظتي الشرقية وسواحل محافظتي الباطنة والتي يجب ان تؤهل من الآن لجذب مزيد من الاستثمارات الإقليمية والعالمية.

اخيرا وليس آخرا هو ضرورة تقييم الإستراتيجية الرقمية الحالية واستراتيجية الدولة ٢٠٢٠ والتي لا يعلم معظمنا نسبة ما تم تحقيقه فيها. فالواقع يشير الى اننا لا زلنا نعتمد على التخطيط قصير الأمد على شكل خطط خمسية اثبتت جدواها في بداية عصر النهضة. لكننا اليوم في حاجة ماسة الى رسم رؤية بعيدة الامد على شكل مشاريع واهداف واضحة وقابلة للقياس والتقييم في جوانب محددة فقط. فالتركيز هو سر النجاح وعلينا أن نركز جهودنا في الحقبة القادمة على أهم قطاعاتنا الإقتصادية ذات المردود الأفضل مما يضمن لنا استدامة في الأعمال. فالاستراتيجية الواضحة ستجعل كل فرد على هذه الأرض الطيبة يعلم ما عليه فعله من أجل المساهمة في تحقيق الرؤية العامة. كما سيعلم المسؤولين وأصحاب القرار في الحكومة عند توليهم مختلف المناصب في الحكومة ما عليهم عمله أيضا بحيث يبدأون من حيث انتهى غيرهم. وليس كما هو الحال اليوم في معظم الدوائر الحكومية، يأتي المسؤول بأفكار وخطط تخالف المسؤول السابق مما يؤدي الى الغاء الكثير من الأعمال السابقة بما يترتب على ذلك من اهدار للوقت والطاقات والأموال والمصادر المتنوعة
.

الأربعاء، يناير 18، 2012

التجارة الإلكترونية تثري


تشير آخر الإحصائيات التي قامت بها مؤسسة مراقبة الأعمال الدولية (BMI) بأن حجم سوق تقنية المعلومات في السلطنة بلغ بنهاية عام ٢٠١١م ما يقارب من ٣٣٩ مليون دولار بزيادة ملحوظة عن العام الماضي (٢٠١٠م) حيث بلغ آنذاك ما يقارب من ٣١٤ مليون دولار. يعزى هذا بشكل كبير الى سعي الحكومة المستمر نحو تطوير البنية الأساسية لقطاع تقنية المعلومات المتمثلة إجمالاُ في مشروع الحكومة الإلكترونية والذي يهدف في المقام الأول الى خلق بيئة ومجتمع رقميين قادرين على مجاراة التطور العالمي الكبير في هذا القطاع. لذلك تتوقع مؤسسة (BMI) أن يرتفع حجم مبيعات الحواسيب في السلطنة لتصل الى ٢٠١ مليون دولار بحلول عام ٢٠١٥. الأمر الذي تؤكده كذلك آخر احصائيات التعداد العام للسكان والمساكن لعام ٢٠١٠م والذي يشير الى نمو حجم شراء الحواسيب في السلطنة بنسبة ٥٣٪ بالمقارنة مع نسبة نمو ٥٪ حسب التعداد السابق (٢٠٠٣م). كما يتوقع ايضا زيادة الإنفاق الحكومي في هذا الجانب خصوصا بعد تدشين مشروع المبادرة الوطنية للحاسوب الشخصي في عام ٢٠١١م. كل هذا بما يبشر بمزيد من الاستثمارات في قطاع التقنية ويشجع على إنشاء شركات محلية ناشئة (Startups) تستغل التطور العالمي والمحلي الملحوظ في هذا القطاع لخلق فرص عمل ومكاسب مادية جيدة.

بالرغم من كل هذا فنحن نتسائل اليوم عن مستوى وحجم التجارة الإلكترونية في البلاد وموقعها من استراتيجية الدولة في تطوير القطاع. فالمؤشرات مشجعة على ظهور العديد من المبادرات في هذا الجانب ولكن الواقع مختلف خصوصا عند النظر في التطبيقات المستهدفة للافراد المستهلكين (B2C). فالفرصة اليوم تعتبر مواتية لظهور العديد من التطبيقات الناجحة للتجارة الإلكترونية. فعند النظر في إحصائيات الإتصالات الأخيرة في السلطنة نجدها مبشرة بمستقبل جيد ليس فقط فيما يخص الحكومة الإلكترونية وتطبيقاتها في البلاد، بل ايضا في تطوير حجم التجارة الإلكترونية والتي عانت من العديد من المعوقات سابقاً. فقد استطعنا اليوم في السلطنة تطوير بنية تحتية لقطاع تقنية المعلومات كافية لقيام استثمارات ومبادرات الكترونية جيدة. حيث نشرت هيئة تنظيم الإتصالات في السلطنة احصائيات الإتصالات المختلفة في السلطنة والتي تشير الى زيادة عدد المشتركين في الإنترنت الثابت بجميع أنواعه الى ٧٤ الف مشترك (لا زال الرقم منخفضا هنا)، وزيادة مشتركي الإنترنت المحمول بجميع انواعه كذلك ليصل الى اكثر من مليوني مشترك بحلول عام ٢٠١١م. قارن هذا بإجمالي عدد السكان في السلطنة والذين يقدر عددهم بثلاثة ملايين نسمة، والذي يشير الى أن معظم الأسر في السلطنة تستخدم الإنترنت بشكل من الأشكال. الامر الذي يشجع على استغلال بيئة الهاتف المحمول وتقية الحوسبة المتنقلة (Mobile Computing) في دعم مبادرات الحكومة والمؤسسات التجارية في هذا القطاع. 


 

من جانب آخر، تطورت سرعة الإنترنت في السلطنة لتصل حاليا ما بين ٥١٢ كيلوبت في الثانية الى أكثر من ١٦ ميجابت في الثانية. وقامت هيئة تقنية المعلومات في عام ٢٠٠٨م بتدشين بوابة الدفع الالكتروني في مرحلتها الاولى والتي تسهل عمليات الدفع عن طريق بطاقات الإئتمان. الامر الذي لاقا اقبالا جيدا، حيث تشير الاحصائيات الى ان حجم استخدام هذه البوابة يصل الى اكثر من خمسة آلاف معاملة شهريا بما يقدر بأكثر من ١٤٤ الف ريال عماني. وفي القريب العاجل سيتم تدشين المرحلة الثانية من هذا المشروع لأعطاء خيارات أكثر في إتمام عمليات الدفع الإلكتروني كخيار الدفع بإستخدام بطاقة الأحوال المدنية والتي بدأنا نرى بداياتها في مشروع المحفظة الإلكترونية. كما أنه سيكون هناك خيار الدفع عن طريق الهاتف المحمول وكذلك عمليات تحويل الأموال بين الحسابات البنكية بشكل آلي. كل هذا مجددا مما يجعلنا نتسائل ايضا لماذا لا يقوم شبابنا بإستغلال هذا التطور الملحوظ في قطاع التقنية اجمالا وفي جاهزية القطاع لمبادرات التجارة الالكترونية خصوصا بما يضمن لهم مصدر دخل جيد دون الحاجة لإثقال كاهل الحكومة لخلق مزيدا من الوظائف؟

قد يرجع السبب في اعتقاد البعض الى أن حجم مستخدمي التجارة الالكترونية في السلطنة ضعيف وغير ذي جدوى اقتصادية. وللاجابة على هذا دعونا نستعرض بعض نتائج دراسة قامت بها مجموعة المرشدون العرب التابعة لمجموعة الاستثمار العربي في الاردن في عام ٢٠٠٩م. تقول الدراسة ان اكثر من ٤٠٪ من مستخدمي الانترنت في السلطنة قاموا في عام ٢٠٠٩م بإستخدام تطبيقات التجارة الالكترونية العالمية وهو ما يشكل آنذاك تقريبا ما نسبته ٥.٦٪ من اجمالي عدد السكان، اي ما يقارب من ١٥٨ الف شخص. ليس ذلك فحسب، فقد استطاعت الدراسة حساب حجم الانفاق الفردي (الشراء) من خلال مواقع التجارة الالكترونية العالمية بما يزيد عن ١٥٠٠ دولار امريكي للشخص الواحد وبمجموع يزيد عن ٢٣٦ مليون دولار. نحن نتكلم هنا عن تطبيقات التجارة الالكترونية المستهدفة للافراد (B2C) وليس النوع الآخر المستهدف للشركات (B2B) والذي يقدر بالملايين كذلك. فالجدوى جيدة ولكن قلة الخيارات الإلكترونية المحلية تجعل هؤلاء الافراد يتجهون الى مواقع التجارة الإلكترونية العالمية بما فيها من مخاطر أمنية ومادية وزيادة في قيمة الشحن.

عند التأمل في المبادرات الحالية في قطاع التجارة الإلكترونية (B2C) في السلطنة نجد مجملها ينصب في انواع محدودة اكثرها شيوعا هو الاعلانات المبوبة من خلال اشهر المواقع والمنتديات المحلية. ربما سبب ذلك هو تناسب الفكرة مع الثقافة العامة في البلاد، حيث تعودنا مع بداية تطور الاعلام المقروء في السلطنة (الجرائد والمجلات) على هذا النوع من التبادل التجاري. قارن هذا بفكرة المزادات الالكترونية وتطبيقاتها المحدودة في السلطنة والتي تميزت فيه العديد من كبرى الشركات العالمية وعلى رأسها شركة (eBay). فبالرغم من أن موضوع المزادات ليس بجديد علينا (سوق الجمعة وهبطات العديد) إلا أننا نجد عزوف كبير من العمانيين في استغلال مثل هذا النوع من انواع التجارة الالكترونية في السلطنة ربما لأننا لم نعتد بيع اغراضنا المستعملة في المزادات. لذلك علينا مراعاة الذوق العام والثقافة المحلية (أو الإقليمية) عند محاولة الإنخراط في قطاع التجارة الإلكترونية ومراعاة عدم تقليد المبادرات العالمية الناجحة دون النظر في ملائمتها لبيئتنا ونمط حياتنا المحلية.

الاثنين، يناير 09، 2012

الدروس المستفادة من انهيار كوداك


لطالما تحدثنا سابقاً عن واجب المؤسسات باختلاف نشاطاتها في تلمس التغييرات النمطية من حولها في العمل والذوق العام حتى لا تنتهي دون سابق إنذار. فيوماً بعد يوم تؤكد لنا الأحداث في عالم الأعمال والتقنية أن الاستمرارية والديمومة هي من أهم وأصعب أهداف المؤسسات. فمن يستطيع أن يصدق أن شركة كوداك التي تعتبر من أوائل شركات التصوير في العالم والتي أصدرت أكثر من ألف براءة اختراع في قطاع التصوير وخدماته المختلفة، تعتزم اليوم إشهار إفلاسها؟ وها هي على وشك الإنهيار على شاكلة حادثة انتحار مؤسسها رجل الأعمال الأمريكي جورج إيستمان الذي إنتحر عام 1932م مخلفاً وراءه ملاحظة مكتوب عليها «إلى أصدقائي، عملي قد تم، فلماذا الإنتظار؟». فبعدما قدمت الشركة لنا من الإنجازات والاختراعات ما قدمت، فهل نحن على وشك أن نشهد نفس السيناريو؟ فلا تزال شركة كوداك من أكثر الأسماء التي نتذكرها بقوة قبل وبعد بداية التصوير الرقمي ناهيك طبعا عن تقنيات التحميض وأفلام التصوير التقليدية. حتى عند ذهابنا اليوم إلى محلات التصوير القليلة المنتشرة هنا وهناك سنجد العديد من ملصقات هذه الشركة ومنتجاتها التي لا تزال مستخدمة إلى الآن، فما هي الأسباب وراء هذه الانتكاسة المفاجأة حتى على موظفي الشركة الأعلم بأوضاعها وماذا نستطيع أن نستفيد من هذه التجربة التي امتدت لأكثر من قرن من الزمان؟

عند التأمل في تاريخ هذه الشركة التي أنشأها الأمريكي جورج إيستمان في عام 1880م نجد أن أسلوب مواجهتها للصعوبات التي تواجهها هي من أهم أسباب تدهورها. فمنذ أيامها الأولى نجد بطئا في التعامل مع التغييرات ومكابرة غير مبررة. الأمر الذي يؤكد عليه علماء الإدارة اليوم وهو أهمية المرونة في النظر للأمور وعدم التقليل من شأن الأفكار الجديدة والشركات الناشئة. نجد هذا واضحاً في طريقة تعاملها مع شركة فوجي اليابانية عند دخولها إلى الأسواق الأمريكية في منتصف القرن الماضي. فالواضح من الأحداث أن شركة كوداك لم تكترث لهذا الدخول ظناً منها أن المستهلكين الأمريكيين لن يرضوا عن علامتها التجارية الأكثر شيوعاً آن ذاك بديلاً (مكابرة). ليس ذلك فحسب، فلم تكلف الشركة نفسها في دراسة الحملة التسويقية القوية للشركة القادمة والتي ركّزت على الأسعار بشكل كبير. لم تلبث هذه المكابرة إلا أن أدت إلى فوز شركة فوجي بعقد الفيلم الرسمي لأولمبياد عام 1984 في لوس أنجلوس، والذي جعل شركة كوداك تخسر حصصها السوقية شيئاً فشيئاً.


الأمر الآخر الذي أطاح بالجمل (كوداك) هو العصر الرقمي لتقنيات التصوير وسرعة تطوره الذي فاقت سرعة استجابة شركة كوداك للتغييرات بالرغم من كون شركة كوداك هي أول من اخترع أول كاميرا رقمية. فالعصر الرقمي لقطاع التصوير ألغى بشكل كبير أهم منتجات الشركة وهو قطاع الأفلام التقليدية وعملية التحميض. فانتشار أجهزة التصوير وأجهزة الطباعة الرقمية قلل من إقبال الناس إجمالا على هذا النوع من الأعمال. ولم تستطع الشركة تطوير استراتيجية ناجحة في دخول هذا العصر الجديد بشكل منافس واقتصرت مشاريعها على خدمات رقمية غير مركزة. فتأخرها في إنتاج أجهزة تصوير رقمية منافسة أعطى الشركات الأخرى الأفضلية عند دخول هذا السوق وتحقيق الأسبقية في الاستحواذ على ولاء الزبائن. ليس ذلك فحسب، فكثرة نشاطاتها ومنتجاتها المختلفة والمتباينة بين القديم والحديث (الرقمي) في هذا المجال بالإضافة إلى محاولتها دخول أسواق جديدة (كقطاع الخدمات الطبية والمستحضرات الصيدلانية) أرهق كاهل إدارة الشركة وشتت تركيزهم مما ساهم في تأخر وتقليل فاعلية عمليات التغيير.

نستطيع اخواني القرّاء اليوم استخلاص بعض الدروس والعبر من تجربة شركة كوداك في محاولتها للمنافسة والإستمرارية في قطاع التصوير لمدة ليست بالهينة (أكثر من مائة وثلاثين عاما). أولاً علينا أن نعلم كما تحدثنا مرارا وتكرارا أن التركيز هو سر النجاح. لذلك على المؤسسات التركيز في ما تستطيع أن تبدع فيه وتتقنه بدلا من محاولة الدخول في قطاعات أخرى تفتقر فيها لحسن التقدير. ثانياً المرونة والفعالية، فمجاراة ما حولنا شيء ومحاولة استباق الأحداث وأخذ الريادة شيء آخر. فالتغيير ضرورة وليس خياراً فإن علمنا ذلك فعلينا أن نقيّم ما لدينا وما يحدث حولنا وأين نريد أن نذهب وعمل الخطط اللازمة للوصول. ثالثاً علينا أن نعلم أن الإختراع شي والإنجاز شيء آخر، فبالرغم من العدد الكبير من براءات الاختراع لدى الشركة والتي تدل على شغفها لإبداع الجديد لم نر إنجازات عملية (منتجات) تنافس في السوق خصوصاً عند اعتماد المنافسين على اقتباس اختراعات الشركة وتقديمها بشكل أرخص وأسهل. رابعاً ضرورة التنبه للفجوة الفكرية بين القديم والحديث، وهذا نستنتجه من الفكر الإداري والقيادي للشركة والتي لم تستطع فيه مجاراة الأنماط الحديثة المتسارعة التي تشهدها التقنية اليوم بشكل عام وتقنيات التصوير بشكل خاص. فأين الشركة من تقنية الويب الثاني والشبكات الاجتماعية وأين هي من تقنيات التصوير الرقمي في الهواتف المحمولة والتي تعتبر من أكثر القطاعات نمواً اليوم وقس على ذلك. وأخيرا وليس آخراً هناك يبدو قانون تجاري على غرار المثل القائل «ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع». فهذا إنذار لجميع الشركات العاملة في القطاعات الديناميكية (المتغيرة باستمرار) التي قد يصعب التنبؤ بانتكاسها اليوم كشركة ابل ومايكروسوفت وفيسبوك وغيرها بإن الإستدامة قد تكون من الاستحالة بمكان وكل ما يمكن عمله هو تأخير وقت الانتكاسة. فإن استطاعت شركة كوداك المقاومة والبقاء لأكثر من قرن من الزمان فكم ستستمر بقية الشركات؟

الثلاثاء، يناير 03، 2012

القناعات أساس الإقتصاد


يهدف علم الاقتصاد اجمالاً الى تحليل عمليات الانتاج والتوزيع والاستهلاك لمختلف المنتوجات والخدمات بالتركيز على احدى الدول أو مجموعة من الدول أو بشكل خاص على احدى المؤسسات. في الوقت ذاته يندر التركيز في تحليل الجوانب الاقتصادية على الأفراد والعائلات والتي أفرد لها الباحثون مؤخراً علماً خاصا يسمى باقتصاد العائلة (Family Economics). يهدف هذا العلم الى اسقاط مفهوم وأدوات الاقتصاد على شؤون العائلة باختلاف مستوياتها ومجتمعاتها. ولذلك فاذا أردنا تحليل العائلة العمانية بشكل مبسط نجدها بدايةً تتكون (في أغلب الأحيان) من والدين وأبناء وأقارب ومعارف وجيران والذين عادةً ما يؤثرون في قرارات كل فرد فيها بشكل مباشر وغير مباشر. الأمر الذي أورث لنا قناعات بين أفراد المجتمع يصعب اقتلاعها حتى مع تطور المستوى التعليمي للأفراد احياناً. فالوالدان وبقية فئات المجتمع وأفراد العائلة عادة ما يفرضون على الناشئة العديد من الأمور الثقافية والعقدية كجوانب التربية والدين والأخلاق ناهيك طبعاً عن بعض أنواع التدخل الايجابي أو السلبي في تحديد مسار حياة الأطفال وتغيير أفكارهم وصقل شخصياتهم. فان أردنا أن نسقط مفهوم الاقتصاد على معظم العائلات العمانية اليوم لرأينا الكثير من القضايا التي اعتادها الأفراد حتى أصبحت واجباً لا يستطيع أحدنا التخلي عنها الا من أوتي نفساً وعزيمة قوية في مجابهة انتقادات المجتمع. تؤثر هذه القضايا على مجمل العائلات العمانية بشكل ينهك كاهل أربابها وتتسبب في العديد من المشاكل الاجتماعية والمالية ناهيك طبعاً عن تأثيراتها الاقتصادية على مختلف المؤسسات أو الدولة ككل والتي هي في الأساس مكونة من هؤلاء الأفراد. فالشاهد هنا أن قناعاتنا هي من اكثر ما يحدد نجاح اقتصادياتنا وفشلها.

دعونا نحلل بعض القضايا المعاصرة الناتجة من قناعات متفشية في المجتمع العماني يصعب تغييرها. فقبل ارتباط الزوجين لتكوين العائلة تبدأ هموم الحياة تنهمر عليهم تباعاً بداية باختيار الطرف الآخر فهناك من يشترط العمل وهناك من يشترط التعليم وغيرها من الشروط (قناعات) التي قد تبدو طبيعية مع الزمن. فان وقع الاختيار والتوافق بين الطرفين فسيبدأ الرجل في توفير أو (غالبا) استقراض المصروفات المادية لحفل الزواج وشهر العسل وتوفير المسكن المناسب المبالغ فيه (قناعات). لا ننسى عاملة المنزل التي بدأنا نرى العديد من الأسر تضعها من عناصر (الحق) العماني الذي شهد مؤخراً هو الآخر تضخما بسبب ارتفاع اسعار الذهب وربما النفط كذلك. ولا ننسى كذلك سيارة العريس وربما العروس ايضاً التي غالبا ما تكون بالأقساط وربما لجأ الاثنان الى شراء أو بناء مسكن العائلة بالأقساط كذلك. كل ذلك مما يسهم في اخراج حفل زواج مبهر لا ينساه الحضور يتألق فيه زوجان غارقان في الديون (الا من رحم ربي). وما هي الا سنوات معدودة لا يكاد فيها الزوجان أن يتعافيا من القروض والديون الا وتتضاعف المسؤوليات والقضايا الشائكة عليهم عندما يرزقان ببعض الأطفال الذين سيحتاجون بطبيعة الحال لمزيد من المستلزمات المادية وبعد ذلك الى المصاريف الدراسية التي تشهد تضخما هي الأخرى حالها حال أي شيء آخر. فقد أظهرت دراسة قامت بها مجلة (Forbes) الامريكية ان مصاريف التعليم عالميا في تزايد مستمر. فقبل عقد من الزمان كان متوسط مخصصات تعليم الابناء المادية عند العائلة الأمريكية يشكل ما نسبته 18% من مدخول العائلة سنوياً، اما اليوم فقد ارتفعت هذه النسبة لتشكل 25% من المدخول السنوي للعائلة، الأمر الذي أجبر الوالدين في معظم الأحيان للاستقراض. أما في السلطنة فالوضع مشابه خصوصا عند تلك الأسر التي آثرت خيار التعليم الخاص على التعليم العام بغض النظر عن الأسباب. فمصاريف المدارس الخاصة تزداد عاماً بعد عام وخيار التعليم الحكومي أصبح للكثيرين حيلة من لا حيلة له، ناهيك طبعاً عن التعليم الجامعي الذي أصبح حلماً عند الناشئة وهماً يراود الآباء والأمهات يوما بعد يوم.

 
القضايا كثيرة أخواني القرّاء والتي ان تتبعنا أسبابها وحدتها فهي في الأصل تعود لقناعاتنا التي تفرض علينا أن نماشي الوسط الذي نعيش فيه. فحفل زفافي يجب أن يكون أفضل من حفل زفاف أخي أو أختي ومهر ابنتي يجب أن لا يقل عن مهر بنات عمها وبيتي يجب أن يكون طابقين أو ثلاثة حاله حال بيوت العائلة وأولادي يجب أن أدخلهم مدرسة خاصة وسيارتي لا يمكن أن تكون أقل من سيارات أصدقائي أو أقاربي. ناهيك طبعا عن موضوع الاجازة الصيفية وكيف نقضيها؟ والأعياد الدينية (العيدين) ومصاريفهما والمناسبات الاجتماعية كأعياد الميلاد والحول حول وعيد الزواج وعيد عقد القران وربما قريباً عيد الحق (المهر). كل ذلك مما يشكل فرحةً وغماً في آن واحد بسبب كثرة المصاريف التي تهدر حتى لا نكون أقل من غيرنا. الأمر الذي أفرز لنا العديد من الأزواج والأفراد أسيروا العمل المضني لتحصيل لقمة العيش وتسديد المستلزمات المادية. فلا وقت لتربية الأبناء والعهدة متروكة للمدرسة الخاصة التي ندفع فيها مئات أو آلاف الريالات ولا وقت لزيارة الأقارب والأرحام ولا وقت للرياضة ولا حتى للمسجد وهو الأهم (الا من رحم ربي). فأصبحت هذه القناعات والمتطلبات المبالغ فيها من أسباب تفشي العديد من القضايا الاجتماعية كالطلاق وفشل الأبناء في الدراسة وآخرها وبدون سابق انذار تزايد عدد المدمنين وظهور حالات موت الفجاءة والتي أبلغنا رسولنا الكريم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام أنها من علامات الساعة.
لا ينتهي تأثير مثل هذه القناعات على الأفراد فقط فإياك أعني واسمعي يا جارة، بل قد يتعداه الى المؤسسات والدول. ففكر التباهي ومماشاة العصر والوضع الراهن نجده حاضراً أيضاً لدى العديد من المؤسسات والدول حول العالم والشواهد كثيرة.