الاثنين، ديسمبر 26، 2011

التقنية تهدم وتبني


سبق وان تحدثنا في مقالة سابقة بعنوان (التقنية تقلق الشركات) عن تسبب التقنية في تهميش بعض القطاعات التجارية كأمثال قطاع مكاتب السفر وقطاع تأجير السيارات واللذان أصبحا يعانيان من انخفاض ملحوظ في أرباحهم السنوية خصوصاً مع انتشار مواقع حجوزات السفر الالكترونية وظهور قطاع جديد في عالم تأجير السيارات وهو قطاع تقاسم المركبات (Car Sharing) المبني على التوظيف الذكي للتقنية الحديثة. لذلك تعتبر التقنية اليوم سلاحا ذا حدين من حيث التأثيرات الإيجابية والسلبية على قطاع الأعمال التجارية، وغالباً ما تكون الإيجابيات واضحة للعيان على عكس السلبيات التي يعكف المحللون والباحثون باستمرار على اكتشافها بين الحين والآخر. كما تحدثنا سابقاً ايضاً عن مختلف سلبيات التقنية الحديثة على شرائح المجتمع التي قد تصل في بعض الأحيان إلى التسبب في موت العشرات من الناس (مقالة التقنية القاتلة) ولكننا اليوم بصدد تقديم أحد أهم التأثيرات المزعجة للتقنية على قطاع الأعمال في العالم أجمع وهي عندما تتسبب في سحب بساط النجاح والاستمرارية من تحت بعض الصناعات أو النشاطات التجارية لحساب نشاطات أخرى .

نجد اليوم وبدون سابق إنذار أن التقنية قد تسببت في انخفاض مبيعات الشركات المصنعة لآلات التصوير بعد انتشار الهواتف الذكية والتي عادةً ما تأتي مدمجة بآلات تصوير أثبتت مؤخراً جدارتها ومنافساتها القوية لآلات التصوير الصغيرة (Point and Shoot). فقد أظهرت آخر الإحصائيات التي قامت بها مجموعة (NBD) الأمريكية بأن قطاع آلات التصوير الرخيصة بنوعيها الثابت والفيديو (Camcorders) قد شهدت انخفاضا يقدر بـ 17% عن العام الماضي بسبب تطور آلات التصوير في الهواتف الذكية التي أصبحت مؤخرا تدعم تسجيل الفيديو عالي الجودة. الأمر الذي ساهم كذلك في تحسين مبيعات القطاعات الأخرى من آلات التصوير من أمثال آلات التصوير الاحترافية بمقدار 12% عن العام الماضي والذي يعزى إلى رغبة المستهلكين في شراء آلة تصوير بمزايا أكبر من تلك المدمجة في هواتفهم. فأصبحت التقنية هنا المسبب لهدم وبناء الأعمال على غرار المثل القائل مصائب قوم عند قوم فوائد.



من جانب آخر وفي قرار مفاجئ من شركة فولكس واجن (Volkswagen) الألمانية، قررت الشركة تعليق خدمة البريد الالكتروني لهواتف البلاكبيري في فترة المساء على معظم الموظفين بهدف توفير حياة أكثر توازنا لهم. يقضي القرار بغلق الخدمة نصف ساعة بعد انتهاء وقت العمل وإعادة فتحها قبل نصف ساعة من بداية وقت العمل بهدف تقليل ضغوط العمل وتوفير المناخ المتوازن للموظف. ففي الوقت الذي يرى بعض الناس أن شغف الموظفين في العمل خلال المساء وخارج أوقات العمل هي من اهم صفات التفوق وأسباب النجاح في الحياة، وعت شركة فولكس واجن وغيرها من الشركات أيضاً إلى ضرورة حث الموظفين على التوازن في الحياة عن طريق تقسيم أوقات اليوم على مختلف جوانب الحياة بدون إفراط ولا تفريط. طبعاً لن يمنع هذا القرار الموظفين من الوصول إلى بريدهم الالكتروني بسبب توفر البدائل الكثيرة الأخرى اليوم المنتشرة على مختلف الهواتف وتطبيقات الإنترنت ولكني أرى أن القرار هو بمثابة تشجيع لأرباب العمل على تقدير ظروف الموظفين خارج الشركة وعدم تكليفهم بالكثير من الأعباء التي تحتاج لأوقات خارج أوقات العمل الرسمية . كما أن هذا القرار أيضاً يوفر للموظفين ارتياحاً نفسيا ورسميا من ضغوط العمل ووطأة أرباب العمل مما قد يساهم في رفع إنتاجيتهم. من هنا نجد أنه بالرغم من إسهام تقنية البريد الإلكتروني لأجهزة البلاكبيري في دعم قطاع الأعمال بشكل عام، إلا أنها في الوقت ذاته قد تسببت بشكل غير مباشر في هدم بعض جوانب الحياة الخاصة للموظفين.

وبما أننا بصدد الحديث عن أجهزة البلاكبيري المصنعة من قبل الشركة الكندية (Research In Motion)، فإنها تعتبر اليوم مهددة بالزوال على غرار أجهزة بالم (Palm) الأمريكية التي لم تستطع مقاومة المنافسة الشديدة في قطاع الهواتف الذكية بحيث انتهى بها المطاف ان تباع لشركة (Hewlett Packard) في عام 2010 مقابل مبلغ 1.2 مليار دولار أمريكي. فقد أعلنت الشركة الكندية مؤخرا تأجيل موعد إصداراتها الجديدة من هواتف البلاكبيري في نسختها العاشرة بسبب تأخر تصنيع بعض شرائح تشغيل الهواتف الداعمة لتقنية (LTE). الأمر الذي اعتبره بعض المحللين ما هو إلا أكذوبة أراد بها الرئيس التنفيذي المساعد (Mike Laziridis) للشركة كسب المزيد من الوقت لمحاولة تصنيع أجهزة منافسة أو الإتيان بأفكار إبداعية . بغض النظر عن السبب فالواقع اليوم يظهر لنا التفوق الكبير لأجهزة الآيفون والأندرويد كماً وكيفاً والذي تتوالى إصداراتهم في فترات قصيرة لا تتجاوز في أغلب الأحيان عام واحد. أما شركة البلاكبيري وغيرها من شركات الهواتف ايضاً كشركة نوكيا مثلاً ما زالت تعاني الأمرين في تقديم الجديد بشكل قادر على التنافس في فترة زمنية وجيزة. فمن الملاحظ أن تطور تقنيات الهواتف الذكية يعتبر الأبطأ في أجهزة البلاكبيري ونوكيا، الأمر الذي جعل الأخيرة تتخلى تدريجيا عن نظام بيئتها المعهود (Symbian)  والتعاون مع شركة مايكروسوفت لتحقيق التميز المنشود . أما شركة البلاكبيري فما زالت تكابر في محاولة تطوير أجهزتها وبيئة نظامها الحالي بشكل يضمن لها التنافس بقوة في المستقبل. فنفس التقنية التي ساهمت في تعزيز مكانة هواتف الأندرويد والآيفون تتسبب اليوم بهدم تدريجي لمكانة هواتف أخرى وكأننا نشهد قانوناً عالمياً للتقنية على غرار المثل القائل ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.

الاثنين، ديسمبر 19، 2011

فرص تطوير الحوسبة السحابية في السلطنة


قامت المؤسسة العامة للمناطق الصناعية يوم الأربعاء الماضي ممثلة في واحة المعرفة مسقط بتنظيم ندوة الحوسبة السحابية والتي كان لي شرف المشاركة فيها كأحد المتحدثين الرئيسيين. هدفت هذه الندوة الى تسليط الضوء على تقنية حوسبة السحاب أو (الحوسبة السحابية) وكيفية استغلالها في السلطنة. سبق وأن تطرقنا لهذه التقنية في عدة مقالات سابقة من أمثال مقالة «مستقبل التجارة في السحاب» ومقالة «حوسبة السحاب ما لها وما عليها» واللتان ناقشنا فيهما الأطر العامة للتقنية دون اسقاطها بشكل تفصيلي على خصوصيتنا في السلطنة. سنحاول في هذه المقالة مناقشة أهم العناصر الواجب علينا مراعاتها في السلطنة قبل البدء في تطوير واستخدام هذه التقنية كما تمت مناقشتها في الندوة المشار اليها أعلاه.

بداية يجب علينا معرفة أن هذه التقنية لا تعتبر وليدة اللحظة وأننا لمسنا بدايتها مع تسعينات القرن الماضي حين دخلت الانترنت الى أرض السلطنة الحبيبة وبدأنا في استخدام البريد الالكتروني كأمثال هوتميل (Hotmail) والياهو (Yahoo) واللذين يعتبران اليوم من تطبيقات حوسبة السحاب. لم يتفق الخبراء على تعريف محدد لهذه التقنية بشكل مفصل حتى عام 2010 حين قام المعهد الأمريكي للمعايير والتقنية (NIST) باصدار أول تعريف دقيق لهذه التقنية لتحديد ملامحها وأبعادها بعد أن كثرت الخدمات المقدمة في الانترنت تحت الاسم نفس. يعرّف المعهد تقنية حوسبة السحاب بأنها نموذج عملي يوفر حزمة من المصادر الحوسبية للمستخدمين عند الطلب بشكل مريح وغير محدود بمكان. كما تقدم التقنية للمستخدمين الخيار بزيادة قدرات هذه الحزمة الحوسبية المشتركة بشكل سريع وبدون أدنى جهد أو حاجة لتدخل المؤسسة الموفرة للحزمة. وأشار التقرير الأمريكي الى احتواء تقنية حوسبة السحاب على خمس صفات رئيسية، وثلاثة نماذج للخدمة وأربعة نماذج للتطبيق والتوزيع.

باختصار وبتعريف مبسط لما سبق، مفهوم الحوسبة في مصطلح الحوسبة السحابية هي وصف لاستخدامات الحاسوب والتي نستطيع أن نختصرها في ثلاثة استخدامات وهي التخزين (Storage) والمعالجة (Processing) والاتصال  (Connectivity).لذلك فالأجهزة التي تستطيع عمل هذه الأعمال تسمى أيضاَ بأجهزة الحوسبة (Computing Devices) ومن هنا نستطيع تفسير تقنيات أخرى تحمل الصفة نفسها من أمثال الحوسبة المحمولة (Mobile Computing) والحوسبة اللاسلكية (Wireless Computing) وحوسبة الشبكة (Grid Computing) وغيرها. أما صفة السحاب في التقنية فهي الانترنت أو بالتحديد مراكز البيانات (Datacenter) والتي تعد من أهم مكونات البنية الأساسية لهذه التقنية. تجدر الاشارة الى أن السلطنة كانت سباقة في توفير هذا الجزء (السحاب) من المعادلة والذي يعد من مشاريع الحكومة الالكترونية التي أشرفت على انشائها هيئة تقنية المعلومات تحت مسمى مركز البيانات الوطني والتي قامت العديد من الجهات الحكومية والشركات التجارية باستخدامه في تخزين بعض بياناتها الخاصة.





تتصف هذه التقنية حالها حال بقية التقنيات بالكثير من الفوائد بالاضافة ايضا الى وجود بعض السلبيات أو القضايا الواجب مراعاتها عند التطبيق والتطوير. ناقشت الندوة هذه القضايا أجمع وحاولت اسقاط الجانب النظري والعملي من خلال خبرات الدول المتقدمة على واقعنا في السلطنة. من هذه القضايا هي موضوع أمن المعلومات وفقدان التحكم في البيانات (Data Lock In). فمثلا هناك القانون الأمريكي الصادر عام 2001 باسم قانون الوطنية (Patriot Act) والذي يعطي الولايات المتحدة الأمريكية الحق في عمل كل ما من شأنه الحفاظ على أمن واستقرار البلد حتى وان تطلب الأمر مراقبة البيانات الالكترونية (بطبيعة الحال). لذلك فإن كان مبدأ سرية المعلومات من أهم متطلبات الجهات المستخدمة لتقنية حوسبة السحاب فربما الأفضل استخدام تقنية الحوسبة السحابية في دول أخرى أو العمل على احتضانها وتطويرها محلياً. أضف الى ذلك أن من أهم أسباب استخدام هذه التقنية هو توفير الجهد والمال باستئجار الحوسبة بدلاً من شرائها فهل هذا يعني التخلي عن الأنظمة الالكترونية الحالية والموظفيين التقنيين داخل المؤسسات؟ ام العمل على استحداث خطة لتطوير الوضع الحالي بشكل يتكامل مع تقنية حوسبة السحاب مما سيتطلب توظيف فنيين جدد على دراية بادارة التقنية الجديدة؟ أضف الى ذلك أن من أهم أسباب توظيف هذه التقنية هو تقليل ما يسمى بـ(Over Provisioning) و (Under Provisioning) عند تحديد المتطلبات التقنية للمؤسسات باختلاف دوائرها وأقسامها. مما يعني أن أكثر الشركات المستهدفة من هذه التقنية هي تلك التي تشهد تطورات مفاجئة في حاجاتها الفنية بين الحين والآخر والتي يصعب التنبؤ بها. فإن كان الأمر كذلك، فما نسبة هذا المؤسسات من اجمالي المؤسسات العاملة في السلطنة؟

لذلك أرى أن تقنية حوسبة السحاب تحتاج الى الكثير من المتطلبات الفنية التي لا يختلف عليها الخبراء في العالم اليوم ولكننا نحتاج في السلطنة الى دراسة وطنية جديدة تقوم على أساس تعاون مشترك بين بعض الجهات الحكومية في السلطنة كهيئة تنظيم الاتصالات وهيئة تقنية المعلومات وواحة المعرفة مسقط ووزارة التجارة والصناعة وربما بعض الجهات الأمنية بالاضافة الى جامعة السلطان قابوس والدوائر البحثية وبعض الجهات التجارية ذات الشأن كشركات الاتصالات وغيرها ممن الشركات التي ستهدف لتكون الموفرة لخدمة حوسبة السحاب. يجب أن تهدف هذه الدراسة لمحاولة توضيح جدوى تطبيق هذه التقنية في السلطنة على جميع شرائح العمل كالشركات الكبيرة والشركات المتوسطة والصغيرة والشركات الناشئة (Start-ups) والجهات الحكومية والأفراد. بالاضافة أيضا وبشكل مهم جدا الى تحديد عوائق التطبيق والانتشار وعلى رأسها العوامل غير الفنية والتي تعتبر الأكثر تعقيدا.
 

الأحد، ديسمبر 11، 2011

الشعب يريد تغيير الرأسمالية


استضاف مركز السلطان قابوس للثقافة الإسلامية الأسبوع الماضي الداعية الأمريكي الشيخ خالد ياسين لإلقاء عدة محاضرات دعوية في مسقط كان من بينها محاضرة بعنوان الإسلام والتحديات المعاصرة. تطرق فيها الداعية إلى أمور وقضايا معاصرة لا يكاد يحرك لها أحد ساكنا لتوضيح أسبابها الحقيقية رغم ما تسببه من قلق للعالم أجمع. من هذه القضايا طبعا هو الوضع المأساوي لاقتصاديات العديد من دول العالم المتقدمة التي أصبحت مجمل مديونياتها تقاس بالمليارات والتريليونات في معظم الأحوال. لا نتكلم هنا عن اليونان وإيطاليا وأسبانيا فقط بل حتى الدول المتقدمة الأخرى كالولايات المتحدة الأمريكية والتي تدين للصين بأكثر من 80% من مجمل مديونيتها التي تقدر بالتريليونات. أضف إلى ذلك قضية الاحتباس الحراري رغم الجدل الكبير المثار حول مصداقية المعلومات المثارة حولها بالإضافة إلى قضية مرض الإيدز وكيف أن معظم الباحثين يجمعون اليوم بأن فيروس هذا المرض لم ينشأ صدفةً بل الاحتماليات تشير إلى أنه قد تم تصنيعه مختبريا ثم تسرب للعالم بالخطأ (بغض النظر عن سبب التصنيع). ليس ذلك فحسب بل إن البحوث الحالية المعروفة باسم بحوث الخلايا الجذعية الجنينية والتي تقوم (حسب ما يقول الداعية) على استخدام الأجنة الميتة في تصنيع العديد من مستحضرات التجميل للنساء اليوم تثير العديد من القضايا الصحية والأخلاقية. حيث يرى فيها الداعي رابطًا غير مباشر مع ازدياد عدد عمليات الإجهاض والتسهيلات المروجة لهذه العمليات. لذلك قد لا تعلم معظم نساء العالم اليوم أن ما يضعن من تبرج على وجوههن قد يكون جنين (طفل) ميت والله المستعان.


كل ذلك والعديد من القضايا التي أراد الداعية أن يثيرها للإشارة الى أن ديننا الحنيف يمكن له أن يقدم اقتراحًا للعالم يضع من خلاله الحلول الناجعة لجميع السلبيات التي خلفتها لنا معظم الأنظمة الإقتصادية في العالم وعلى رأسها النظام الرأسمالي. فالسبب يرجع أولاً وأخيراً إلى استكلاب المؤسسات والأفراد نحو تحصيل الفائدة المادية بشتى الطرق متناسين الجانب الإنساني والبيئي في القضية. الأمر الذي أورث لنا تركة من القضايا الحياتية الشائكة التي تهدد بتحويل العالم بعد ما يقارب من سبعين عامًا إلى عصر جديد أشبه بالعصر الجليدي. لا يعتبر هذا الهجوم على النظام الرأسمالي بجديد فقد ناضل نائب الرئيس الأمريكي الأسبق أل جور لسنوات طويلة في تحذير العالم حول موضوع الاحتباس الحراري من خلال العديد من الخطب والمقالات والمرئيات كان من أشهرها الفيلم الوثائقي الصادر عام 2006 باسم حقيقة مزعجة (An Inconvenient Truth) والتي قدّم فيه تحذيرًا وتوعية بمخاطر التلوث الصناعي بأنواعه استحق من خلاله الحصول على عدة جوائز عالمية. ومؤخراً كذلك قام رجل الأعمال الإنجليزي الشهير ريتشارد برانسون (Richard Branson) صاحب مجموعة فيرجن العالمية (Virgin)  المكونة من أكثر من 400 شركة حول العالم بإصدار كتاباً جديدًا بعنوان (Screw Business as Usual) والذي أكّد فيه بالأمثلة والأدلة على ضرورة تحلي المؤسسات التجارية في النظام الرأسمالي بالمسؤولية الإجتماعية الأمر الذي (حسب رأي الكاتب) قد تم إهماله من قبل الكثير من الأثرياء ورجال الأعمال. كما يؤكد الكاتب أيضاً على أهمية أعمال الخير الاجتماعية والبيئية كقوى دافعة للنظام الرأسمالي الحالي بحيث يصبح جل اهتمام المؤسسات التجارية هو خدمة المجتمعات والرقي بها وتوفير المناخ السليم والعيش الكريم للناس أجمع أولاً وتحقيق الربحية ثانياً والتي ستأتي تباعاً. لا يكتفي الكاتب بالوعض في هذا الشأن بل يسرد لنا العديد من الأمثلة الحية من بعض المؤسسات العالمية التي تبنت فكرة المسؤولية الاجتماعية وكان لها الأثر على تحسين إيراداتها كشركة ماركس أند سبنسر (Marks and Spencer) والتي استطاعت من خلال مشروعها (Plan A) عام 2007 في إعادة تدوير 94% من مخلفاتها الورقية الأمر الذي جعلها توفر أكثر من 71 مليون جنيه استرليني بحلول عام 2010. كما قامت شركة جنرال موتورز خلال خمس سنوات باستثمار ما يقارب من 5 مليارات دولار في بحوث الإبداع البيئي (Ecomagination)  لإنتاج منتجات وخدمات تقلل من استنزاف المياه والطاقة محققة في ذلك إيرادات تقرب من 70 مليار دولار.



الشاهد هنا أخواني القرّاء هو أن العالم اليوم يتسارع بخطى مجنونة تهدف في مجملها إلى الربحية بغض النظر عن الوسيلة الأمر الذي أفرز لنا اليوم الكثير من الجشع والفساد المالي العالمي المترسخ بشكل يصعب إقتلاعه. ليس ذلك فحسب فقد أصبح جل اهتماماتنا اليوم كافراد هو نمط الحياة التي نعيش وقضايانا الخاصة بنا والتي تسببت بشكل طبيعي في إهمالنا وتناسينا بشكل عام لقضايانا المحلية ناهيك عن قضايا الأمة والعالم أجمع. لم يعد الأمر كخيار لمعظمنا فالمهنية والشغف المبالغ للترقي في العمل لم يعط أحدنا الوقت لعمل بعض الواجبات الأسرية كتربية الأبناء مثلا فكيف لنا اليوم أن نتحرك من أجل قضية عالمية لا نرى منها إلا بصيص تأثيراتها والتي يتوقع المحللون أن تتفاقم بعد عشرات السنين، الأمر أن يهون المسألة علينا كونها ستكون مشكلة من سيأتي بعدنا، فنحن اليوم وما بعدنا الطوفان!

الثلاثاء، ديسمبر 06، 2011

إدارة المؤسسات بالقهوة والتمر


يهدف علم الإدارة بشكل عام إلى توظيف الكفاءات البشرية لتحقيق الأهداف المنشودة بشكل فعّال مستغلين في ذلك التسهيلات والمصادر المتاحة أحسن استغلال. لذلك يهدف المديرين بالتحديد إلى عمل العديد من النشاطات التي من شأنها تحقيق هذه الغاية ومن بينها التخطيط والتنظيم والتوظيف والقيادة والتحكم في مجريات الأعمال داخل وخارج المؤسسة لتقليل نسبة الأخطاء بأنواعها. قد يبدو ذلك بسيطاً للوهلة الأولى ولكن قد يعاني المديرين الأمريّن في تحقيق أهدافهم والتي تعتمد بشكل كبير على تجميع الناس أولاً وكل ما بعد ذلك هيّن. فكيف يمكن الحصول على الكفاءات المطلوبة في ظل المصادر والحوافز المادية المحدودة؟ وكيف يمكن تحقيق التجانس بين الموظفين وتوزيع الموظفين المناسبين على الوظائف المناسبة؟ وأكبر من هذا وذاك هو العمل على تحفيز الموظفين وقيادتهم لتحقيق الفاعلية والإنتاجية المنشودة للاستمرارية بقوة في عالم يتصف بالتنافسية في الدرجة الأولى؟

عند التأمل في تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي للتنافسية العالمية الأخير(2011 – 2012)  نجد أن معظم الركائز التي اعتمد عليها التقرير في تحديد تنافسية الدول لا تخلو من علم الإدارة في إحدى جوانبها. ففي ركيزة التعليم العالي والتدريب مثلا تأتي جودة الجهات التعليمية المختصة في علم الإدارة من وسائل القياس. الأمر الذي ساعد بعض الدول في احتلال مراكز متقدمة في مؤشر التنافسية العالمي الأخير. فعلى سبيل المثال تقدمت دولة بلجيكا في التقرير الأخير بمقدار أربعة مراكز عن العام الماضي لتحتل المرتبة 15 عالميًا لعدة أسباب من أهمها تركيزها على التدريب والتعليم الإداري من خلال إنشاء مدارس من الدرجة الأولى في علم الإدارة. لذلك قد يعتبر البعض أن الإدارة علم يمكن دراسته وتحديد نظرياته وتطبيقها حرفياً للحصول على النتائج المرجوة. في حين قد يميل البعض إلى الاعتقاد بأن الإدارة فن ومهارة يصعب وضعها في بوتقة واحدة وإسقاطها على إطار علمي بحت، فلكل حادثة وحالة خصوصيتها وإن تشابهت أعراضها.

بعد تجربتي لإدارة بعض الأعمال والمجموعات في العمل استطيع الجزم بأن الإدارة بشكل عام هو علم له اساسياته وأساليبه لا يمكن أن يطبق إلا بشكل فني. فالفن هنا يأتي مع الإحسان في التعاطي مع مجريات وجوانب العمل والتعمق في فهم ظروف المؤسسة وخصوصيات كل فرد فيها والذي عادةً ما يغفله الكثير من المديرين والمسؤولين. فمن تخصصاتنا المهمة في كلية التجارة هو تخصص الإدارة التي يدرس فيه الطلاب الكثير من أساليب العمل التي يحتاجها المديرون اليوم باختلاف أقسامهم ومستوياتهم لإدارة الموظفين أولاً والأعمال ثانياً. للأسف لا يتم إسقاط هذه المبادئ والأسس على خصوصيتنا الفكرية والثقافية في السلطنة إلا نادراً. فمعظم الكتب هي من الدول الغربية والتي يجتهد فيها الباحثون والكتّاب لشرح نظرياتهم وقواعدهم الإدارية من وجهة نظرهم التي لا تخلو من بعض التأثير الواضح للفكر والطبع الغربي المختلف عن ثقافتنا العربية العمانية.


استطيع اليوم من خلال تجربتي المتواضعة في الإدارة ان أضع بين أيديكم أسلوبا جديدا ومجربا لإدارة الأعمال والموظفين باستخدام ثقافة تناول القهوة والتمر (أو الرطب) المنتشرة بيننا. فما عليك أخي المدير إلا أن تخصص وقتا قصيرا في بداية كل يوم أو أسبوع لتناول (الفوالة) مع موظفيك في العمل بشكل حميم خالٍ من الرسميات. تستطيع من خلال هذه الدقائق البسيطة التقرب إلى الموظفين بتبادل الفكاهات ومعايشة الأعمال بشكل ودود والتعرف على احتياجات الأعمال عن قرب والتخطيط لأعمال ذلك اليوم أو الأسبوع بما يضمن لك انسجاما بين الموظفين وولاء أكبر للعمل. ليس ذلك فحسب فإن استطعت أن تنظم رحلات ترفيهية جماعية شهرية أو فصلية فافعل وتجنب الأوامر والتصرفات الرسمية وأكثر من عبارات المديح في وقتها ولا تيأس مهما طال الوقت واعط الآخرين ثقتك لتحوز على ثقتهم.

لا يعتبر هذا الأسلوب بجديد، فعلم الإدارة يعطينا قواعد إدارة المؤسسات بشكل غير رسمي (Informal Organization) ولكن كيف يمكن إسقاط ذلك على موروثنا الثقافي التقليدي؟ فمعظم المصادر الإدارية الغربية تعطينا اساليب تطبيقية لمثل هذا النمط الإداري كسياسة الأبواب المفتوحة وتبني فكرة مكاتب المقصورات (Cubicles) والتي تطبقها بعض المؤسسات معنا في السلطنة. كما قد تطبق بعض الجهات الأمنية والعسكرية ما يسمى بموجز الصباح (Morning Brief) والتي يجتمع فيها يوميًا القائد في بداية كل صباح بكبار الموظفين أو الضباط لمناقشة ما كان وما سوف يكون. كل ذلك مما قد تعطينا إياه التجربة الغربية في هذا المجال ولكننا نستطيع إضافة ما ينسجم مع ثقافتنا العمانية الأصيلة والذي سيكون له التأثير الأكبر والأنجح. قد يستغرب البعض أن في الوقت الذي يحاول فيه الكثير من المديرين تقليل أو إلغاء ظاهرة (الفوالة) بين الموظفين أثناء ساعات العمل، أرى شخصياً أن هذه الظاهرة من أكثر الوسائل الناجحة والناجعة في تحقيق إدارة سليمة وتحفيز جوهري حقيقي بين الموظفين إن أحسنّا استغلالها. فسياسة التعالي على الموظفين وامتهان أسلوب الأبواب المغلقة أو الأمر والتهديد لم يعد مجدياً اليوم، حتى مبدأ التحفيز المادي فقد أثبت نجاحه النسبي فقط في المدى القصير. لذلك يسعى المديرون بشكل خاص والشركات بشكل عام إلى إيجاد بيئة عمل حميمة للموظفين بحيث يستمتع الموظفون بحضورهم إلى العمل أكثر من استمتاعهم بالإجازة.

الثلاثاء، نوفمبر 22، 2011

التقنية القاتلة


بدايةً نبارك لكم أعزائي القرّاء حلول العام الهجري الجديد والعيد الوطني المجيد سائلين المولى القدير أن يعيد علينا هذه المناسبات السعيدة وعمان وقائدها وشعبها يرفلون بالصحة والعافية والأمن والإيمان (آمين). 

لا يوجد خلاف اليوم اخواني واخواتي القرّاء على دور التقنية ونظم المعلومات في نجاح الأعمال وتطورها المستمر. ونعلم جميعاً ايضاً أن للتقنية بعض السلبيات التي قد تنتج من الإسراف في الإستخدام أو من التوظيف الخاطئ والغير مدروس لها. لا تتعدى هذه السلبيات في أسوأ الأحوال بعض الأعراض المرضية أو الآلام الحادة في بعض أجزاء الجسم بالنسبة للمستخدمين الأفراد بالإضافة طبعاً إلى بعض الإخفاقات المهنية والسوقية بالنسبة للمؤسسات. ولكن أن تكون التقنية سبباً رئيساً في موت الناس بالعشرات هو الذي يستوقفنا اليوم لنبحث في الأسباب وربما نعيد النظر في إستراتيجيات إدارة التقنية المستخدمة حالياً وطرق توظيفنا لها.

سقطت في عام 2009م واحدة من أكثر الطائرات التجارية تطوراً في العالم وهي طائرة الخطوط الفرنسية إيربس (A330) في رحلتها رقم 447 متسببة في موت جميع المسافرين وعددهم 228 بالإضافة إلى أفراد الطاقم. الأمر الذي أثار دهشة صناعة الطيران العالمي أجمع بشكل عام وشركة إيربس على وجه التحديد خصوصاً بأن السقوط حدث في أجواء غامضة وبشكل سريع. فالمعروف بأن التقنيات الكثيرة الموجودة في مثل هذه الطائرات كالمقصورة الآلية بالكامل والمحرك الجديد المتطور والأنظمة الآلية المدمجة في مختلف أجزاء الطائرة تغنيك في كثير من الأحيان عن قائد الطائرة في تحديد المسار والتحكم بجميع الوظائف. فنظام الطيّار الآلي في هذه الطائرة يعتبر من أكثر الأنظمة المماثلة تطوراَ في العالم.

نشرت مجلة (Popular Mechanics) تقريراً حول هذا الحدث وأسبابه في شهر أغسطس الماضي بعدما تمكنت الحكومة الفرنسية وشركة خطوط الطيران الفرنسية وشركة إيربس من إنتشال الصندوق الأسود من بقايا حطام الطائرة من أعماق المحيط الأطلسي مع بداية عامنا هذا (2011). تبين أن أسباب السقوط لم تكن إلا في خلل بسيط (ومميت) في بعض المجسات الآلية التي يعتمد عليها قائد الطائرة في توجيه الطائرة والتحكم بها. فقيادة الطائرة اليوم تعتمد بشكل كبير على المعلومات التي تظهرها هذه المجسات وغيرها من الآليات عن الأنشطة والقياسات داخل وخارج الطائرة كسرعة الرياح والإرتفاع مثلاً. الأمر الذي جعل قائدي الطائرة يتعاملون مع معطيات ومعلومات خاطئة تظهرها هذه المجسات العاطلة وبالتالي إلى توجيه وقيادة الطائرة بشكل خاطئ ومميت. فالمعلومات الخاطئة ترتب عليها قرارات خاطئة وبالتالي إلى السقوط المريع.



من جانب آخر وفي تجربة تعتبر الأولى من نوعها في العالم (Mars500)، قامت شركة الفضاء الأمريكية (ناسا) بتجربة محاكاة إرسال ستة أشخاص إلى كوكب المريخ بهدف معرفة تأثير العزلة والتقنيات المستخدمة في حياة رواد الفضاء. فقد قامت الشركة بصنع كبسولة فضائية مجهزة بجميع إحتياجات الطاقم لمدة 520 يوما (أي عام وأكثر من خمسة أشهر) على غرار المقصورة الفضائية المزمع إرسالها إلى المريخ. الهدف هنا هو حجز هؤلاء الستة طيلة هذه الفترة لإكتشاف السلبيات المعنوية والمادية التي قد تصيبهم خلال محاولتهم لقضاء الـ 520 يوماً بعيداً عن كوكب الأرض وكأنهم فعلاً في مهمة لإكتشاف كوكب المريخ. بالرغم من توفر أنواع التجهيزات والتقنيات وأدوات الترفيه، إلا أن النتائج الأولية تشير إلى صعوبة تطبيق مثل هذه المهمات أولاً بسبب العزلة الإجتماعية والملل والتدهورات النفسية التي أصبحت واضحة على هؤلاء الرواد بعد شهور من بداية المهمة. فالتقنية الحديثة والتي قد يعتقد البعض بأنها قد تغنينا عن العالم الخارجي والمجتمع بشكل عام يتبين لنا يوماً بعد يوما فشلها في هذا الجانب.

ليس ذلك فحسب فقد يكون للتقنية الحديثة والإبتكارات أو المشاريع القائمة عليها سلبيات مميتة أيضاً بشكل غير مباشر وغير متوقع. أنظر مثلاً في تطور (أو تدهور) صناعة هيكل الطائرات والسيارات بشكل عام. فقد صحب إرتفاع أسعار الوقود في العالم مشاريع لبناء مركبات أقل إستهلاكاً للوقود وكان الخيار هو إستخدام مواد الكربون المركبة (Carbon Composites) الخفيفة بديلاً للمعادن المعروفة الثقيلة. الأمر الذي أنشأ لنا اليوم طائرات ومركبات مبنية من مواد بقوة الحديد وأقل خفة من الألمنيوم والتي توفر الكثير من الوقود بسبب خفة الوزن. السؤال المهم هنا هو كيف لنا أن نحلل ونتوقع العمر الإفتراضي لمثل هذه المواد الجديدة الغير مجربة مسبقاً والتي قد تتعطل بشكل مفاجئ مسببة حوادث وخيمة؟ فبالنسبة للمواد المستخدمة سابقا كالحديد والألومنيوم، توجد اليوم معلومات كافية عن مسببات الأعطال بالإضافة إلى توفر أدوات القياس المجربة بعكس مادة الكربون المركبة التي لا تزال تحت التجربة والدراسة. كل ذلك وأكثر يضعنا اليوم أمام مفترق طرق على غرار المثل الأجنبي (Better Safe than Sorry)، فإما أن نتعامل مع التقنية الجديدة بتوازن وحسن إدارة وفهم شامل وإما أن نبتعد ونطبق ما هو أسلم وأضمن.