لا يختلف اثنان اليوم حول التأثير الواضح للسياسة كعلم وعمل على مختلف جوانب الحياة في جميع بلدان العالم. فطالما أُخضع اقتصاد الدول وربما دينها وغيرها من القطاعات المهمة تحت وطأة التأثيرات السياسية بحجة المصلحة العامة واﻷمن القومي. أما اليوم فقد بدأنا نشهد تحولا جذريا في هذا الجانب بحيث بتنا نلمس التأثير العكسي والمباشر ﻷحد أهم قطاعات التنمية داخل البلدان وهو قطاع تقنية المعلومات والاتصالات في صياغة السياسات في مختلف دول العالم (العربية والغربية على حد سواء). اﻷمر الذي أجبر بعض الدول مؤخراً إلى قطع بعض أو كل خدمات اﻹنترنت والاتصالات من باب السيطرة على ثورات الشعوب المطالبة باﻹصلاح والتغييرات السياسية كما هو الحال في مصر واليمن وسوريا وليبيا والصين والبقية تأتي. ليس ذلك إلا تأكيداً على أن تطور التقنية الحديثة السريع فاق تخطيط السياسيين وأصبح يقف بقوة أمام رشاش الماء والقنابل المسيلة للدموع، مما يُنذر بتقنيات حديثة تقلب الطاولة في وجه الظلم وااستبداد السياسي العالمي.
تعتبر الشبكات الاجتماعية (Social Networks) من خلال أشهر المواقع العالمية من أمثال الفيسبوك (Facebook) والتويتر (Twitter) أهم ما شجع في قيام الثورات اﻷخيرة في البلدان العربية. خذ على سبيل المثال كيف إزداد رواد موقع تويتر من البحرينيين إلى أكثر من 80% من الشعب للتواصل وإبداء الآراء في مجريات أحداثهم الداخلية اﻷخيرة، نسأل الله للبحرين وللشعب البحريني الشقيق اﻷمن والاستقرار (آمين). عادةً ما يرتاد مثل هذه المواقع الكثير من فئات الشباب المتعلم ﻷغراض الترفيه والتواصل الاجتماعي ومعرفة المستجدات في مختلف قطاعات الحياة. فإن كان بإمكان الجهات اﻷمنية أن تحضر التجوال في الشوارع وتراقب تجمعات الناس في المقاهي ودور العبادة، أصبح أمام الناس اليوم خيار اﻹنترنت والذي يتيح للمستخدمين حرية إبداء الرأي دون الحاجة للإفصاح عن هوياتهم أو جنسياتهم أو توجهاتهم الحزبية أو الدينية من خلال العديد من المواقع والتطبيقات الإلكترونية. ليس ذلك فحسب، فقد أصبح التواصل اليوم يتم عبر أشكال مختلفة من اﻷجهزة الحديثة كالحواسيب بأنواعها والهواتف المحمولة الذكية مما يتيح للمستخدمين حرية التجوال والمشاركة من قلب الحدث لنقل اﻷخبار بواقعية وبتحديث مستمر. أنظر مثلاُ إلى التغطية الإعلامية للأحداث في ليبيا الشقيقة كيف تتم حالياً. كل ذلك مما جعلنا نشهد توجهاً من السياسيين لتقنين هذه التقنيات بما يخدم (كما يقولون) المصلحة العامة واﻷمن القومي.
لا يعتبر تأثير التقنية الحديثة وباﻷخص تطبيقات الويب الثاني على سياسات الدول بجديد في الساحة الدولية. ففي الماضي القريب عانت (وما زالت) الولايات المتحدة من فضائح نشر الكثير من المستندات السرية على موقع الويكي ليكس (Wikileaks). أضف إلى ذلك حظر العديد من الدول كالصين وغيرها للكثير من المواقع على الشبكة العنكبوتية والتي عادةً ما يرتادها منتسبو جمعيات حقوق اﻹنسان واﻷحزاب الشعبية المعارضة. اﻷمر الذي يضع البلدان أمام خيارين أحلاهما مر، إما بالسماح أو عدم السماح للإنترنت داخل البلد. طبعاً عدم السماح مع القدرة على ذلك يعتبر ضرباُ من الجنون خصوصاً ونحن نعيش اليوم في ظل العولمة. فقطاع الاتصالات اليوم يعتبر شرطا أساسيا للتنمية المحلية وجذب الاستثمارات الخارجية وتطوير اقتصاديات الدول. أما تقنين القطاع وحضر المواقع الإلكترونية التي قد تؤدي إلى زعزعة أمن واستقرار البلد (من وجهة نظر السياسيين) فمن شأنه الإساءة إلى سمعة البلد عالمياً مما يجعلها تتصدر قائمة أكثر الدول عداء للإنترنت حسب تقارير جمعية الصحفيين بلا حدود.
لسنا هنا للحكم على سياسات الدول ولكن مما سبق ومما نرى اليوم نستطيع الجزم بأن نظرية المنع والحظر وتسييس التقنيات أثبتت فشلها مما يجعلها كما يقول المثل الشعبي (تزيد الطين بلة). فهي من جانب تعتبر كمؤشر إلى خوف وفساد الأنظمة ومن جانب آخر تزيد الناس عزماً وإصراراً على آرائهم التي عادةً ما تهدف للتغييرات اﻹيجابية في البلاد. لذلك يجب على القائمين على أمور الدول النظر فيما تستطيع التقنية الحديثة تقديمة للبلد إيجاباً وسلباً وتفهم العقلية الجديدة التي نشأت بين جيل الشباب والثقافة السائدة في فئات التغيير في مختلف المجتمعات. لذلك نرى اليوم دوراً رائداً من بعض حكومات العالم استغلال هذه المواقع (التي تمنعها البلدان اﻷخرى) للتواصل مع مختلف فئات المجتمع ومشاركتهم في اتخاذ القرارات خصوصاً تلك التي تمس واقعهم وحياتهم المباشرة. اﻷمر الذي يعد بالطبع بإيجاد شعوب أكثر ولاءً وإنتماءً لحكوماتهم وأجهزتهم اﻷمنية. لذلك نرى اليوم الجيش المصري ينشأ له صفحة خاصة به في موقع الفيسبوك للتواصل مع شباب الثورة باللغة والعقلية التي يفهمها هؤلاء الشباب وليس فقط عن طريق المنشورات السياسية والخطب التلفزيونية.