من أكثر النعم التي إمتن الله بها على الكثير من عباده اليوم هي نعمة الأمن والتي لا تظاهيها نعمة أخرى بعد نعمة الإسلام. فقد قال صلى الله عليه وسلم "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا" (رواه البخاري في الأدب المفرد). من هنا نجد حرص الدول الكبير على أمنها القومي ومكافحة كل ما يمكن أن يتسبب في زعزعة هذا الأمن ولعل هذا الأمر هو سبب الخلاف الحالي بين بعض دول العالم وبين شركة (RIM) المنتجة لهواتف البلاكبيري (Blackberry) المحمولة. الأمر الذي دفع بعض هذه الدول للإعلان بإيقاف وحظر إستخدام خدمات البلاكبيري داخل حدودها الجغرافية، فما هي الأسباب يا ترى؟
أبدت بعض الدول مؤخراً تخوفها الأمني من خدمات البلاكبيري (Blackberry Services) المكونة من خدمات الرسائل والدردشة (Blackberry Messenger) والبريد الإلكتروني وتصفح الإنترنت بسبب قوة التشفير الكبيرة التي تعتمدها شركة بلاكبيري لحماية مراسلات المستخدمين (التجاريين خصوصاً)، بالإظافة إلى طريقة عمل هذه الخدمات والتي تقوم بتوجيه وتخزين المراسلات اليومية في خادمات (servers) خارج نطاق وصلاحية بلدان العالم. بمعنى آخر، لا تستطيع (نظرياً) معظم دول العالم اليوم مراقبة المحادثات والمراسلات التي يقوم بها مستخدمي البلاكبيري بسبب قوة التشفير أولاً وعدم سيطرة الدول على الحواسيب التي تقوم بتخزين هذه المراسلات ثانياً. طبعاً، مثل هذه المراقبة والقدرة على الرجوع للمحادثات والمراسلات المخزنة مهم جداً للدول عند حدوث (أو توقع حدوث) بعض الحالات التي تهدد أمن الدول كحادثة إغتيال القيادي بحركة حماس "محمود المبحوح" في دبي مثلاً. الأمر الذي يجعل أهم ميزة في جهاز البلاكبيري اليوم وهي "سرية المعلومات" من أكثر ما يقلق الأمن القومي للدول. أظف إلى ذلك أن شركة البلاكبيري بإمكانها (إن أرادت) أن تقرأ وتحلل وتستفيد من هذا الكم الهائل من المعلومات التي تُجمع يومياً من مستخدمي أجهزة البلاكبيري مما قد يسبب قلقاً على الأمن القومي لكثير من البلدان خصوصأ أن هذه الشركة قد تقع تحت تأثير بعض الدول العظمى.
حاولت بعض الدول التغلب على هذا الأمر بشتى الطرق وربما كان محاولة شركة إتصالات الإماراتية العام الماضي في زرع برمجيات تجسس على أجهزة البلاكبيري أحد هذه الوسائل والتي أشرنا إليها في مقالة سابقة بعنوان "شركة هاتفك المحمول تتجسس عليك". كما قامت بعض الدول بمحاولة التوصل إلى حل وسطي عن طريق المفاوضات مع الشركة الأم والتي مقرها في مقاطعة أونتاريو بكندا في محاولة وضع حواسيب التخزين (الخادمات) في أحد البلدان الخليجية بحيث يسهل معها التوصل لمنظومة أمنية لتقنين طرق الوصول للمعلومات المخزنة وكيفية إدارتها. لم تتوصل هذه الدول مع شركة بلاكبيري إلى إتفاقية مرضية إلى الآن مما جعل دولة الإمارات تعلن عن عزمها في حظر خدمات البلاكبيري بحلول شهر أكتوبر القادم. أما المملكة العربية السعودية فأعلنت قراراً فورياً بتعليقها لخدمات البلاكبيري بداية من يوم السادس من شهر أغسطس الجاري، إلا أن شركات الإتصالات الثلاثة بالمملكة لم تبدأ بتنفيذ هذا القرار إلى الآن بزعم أنهم على وشك التوصل لحلول وسطية مع شركة بلاكبيري. كما أبدت كل من دولة البحرين والجزائر والهند وأندونيسيا توجهاً مشابهاً لم يحدد فيه بعد التاريخ المزمع فيه إيقاف خدمات البلاكبيري. أما شركة بلاكبيري فقد أصرت على عدم الرضوخ لمطالب الدول من باب حرصها على حماية خصوصية وأمن معلومات زبائنها الأفراد والتجاريين. ليس ذلك فحسب، فقد إتهم نائب الرئيس التنفيذي للشركة (مايكل لازاردس) أصحاب القرار بهذه الدول خصوصاً الخليجية منها بالجهل في أمور التقنية وعدم معرفتهم بكيفية عمل الإنترنت وأجهزة البلاكبيري.
أبدى هذا الموضوع الكثير من الجدل بين الناس، فهناك من يرى جدية وشرعية المطالب التي تنادي بها الدول وهناك من يعتقد أن الموضوع هو محاولة من الدول في كسب مبالغ إضافية عن طريق تسعير خدمات البلاكبيري الحالية وحرمان المستخدمين من التخاطب وإرسال الرسائل النصية والمصورة بالمجان كما هو الحال الآن. في رأيي الخاص، أرى أن الدول بشكل عام لها الحق في تعزيز أمنها القومي بإخضاع المراسلات والإتصالات الإلكترونية (الصادرة والواردة) سواءاً عن طريق الإنترنت والحواسيب أو عن طريق الأجهزة المحمولة تحت المراقبة لضمان عدم تسرب أو سرقة المعلومات ذات الأهمية بالأفراد والمؤسسات التجارية والحكومية وللمحافظة على أمن المواطنين والشركات العاملة والوحدات المختلفة داخل البلد من الإبتزاز أو التخريب أو التجسس. في المقابل فإن الشركات لها الحق كذلك في حماية ملكياتها الفكرية والحفاظ على سرية معلومات زبائنها ولكن يجب عليها أن تحرص عند تعاملها مع الحكومات أن لا تكيل الأمور بمكيالين، بحيث تتساهل مع بعض الدول وتتشدد مع البعض الآخر. من هنا يجب أن تسوى مثل هذه الأمور بوجود جميع الأطراف الدولية المعنية من حكومات ودعاة حقوق إنسان وشركات ومنظمات دولية ذات الإختصاص والصلة، بهدف الوصول إلى معايير دولية تحدد واجبات ومسؤوليات شركات الإتصالات والحكومات فيما يخص موضوع المراقبة الإلكترونية. تجدر الإشارة كذلك غلى أن موضوع أمن المعلومات في أجهزة البلاكبيري لا يعتبر جديداً وحصراً على الدول العربية والآسيوية فقط، فقد أبدت فرنسا في عام 2007 قلقها من أجهزة البلاكبيري في إمكانية إستخدامها للتجسس من قبل وكالات المخابرات الأمريكية. الأمر الذي يظهر إرتباط بين حكومة الولايات المتحدة الأمريكية وبين شركة بلاكبيري في أمور أمن المعلومات، مما قد يفسر كذلك إعلان إدارة الرئيس أوباما الأخير (قبل أيام معدودة) العزم على التوسط لإيجاد حل بين شركة بلاكبيري (الكندية) والدول الراغبة في إيقاف خدماتها، فلماذا يا ترى تأتي الواسطة من أمريكا وليس كندا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق