أقيم بمدينة جاكارتا الأندونيسية في أكتوبر من العام الماضي المؤتمر العالمي الحادي عشر للندوة العالمية للشباب الإسلامي والذي جاء تحت عنوان "الشباب والمسؤولية الاجتماعية". استضاف المؤتمر العديد من المفكرين والمختصين لتدارس كيف يمكن للأمة النهوض بالمشاريع الاجتماعية بين مختلف فئات الناس بشكل عام والشباب على وجه التحديد. من أكثر ما شدني في هذا المؤتمر هو كلمة الدكتور عمرو خالد والتي ناقش فيها تجربته الشخصية في هذا المجال من خلال ثلاثة أمثلة من المشاريع الشبابية وهي مشروع "صنّاع الحياة" للنهوض بخدمة المجتمعات ومشروع "حماية" الخاص بمخاطر المخدرات على الشباب ومشروع "إنسان" لدعم الأسر الفقيرة ومساعدتها على مواجهة الفقر. استنتج المحاضر من خلال هذه المشاريع بعض الإيجابيات والسلبيات بين فئات الشباب وحض الجميع على دراستها لمحاولة الإرتقاء بالشباب والأجيال القادمة إلى أعلى الهمم. من أهم السلبيات التي استنتجها الدكتور عمرو خالد بعد تجاربه العديدة مع مشروعات الشباب لمدة فاقت الستة أعوام هو افتقار شبابنا للحس (البعد) الاستراتيجي في المشاريع، وهو ما أسماه المحاضر بالنفَس الاستراتيجي. فالمعنى هنا أن معظم شبابنا وللأسف الشديد أصبحوا يفتقرون لمعنى التخطيط الاستراتيجي، الأمر الذي جعلهم ينظرون للأمور بنظرة مستعجلة ومتهورة في بعض الأحيان مما ساهم في تركهم للمشاريع الاستراتيجية وإقبالهم على المشاريع قصيرة الأمد. صدقوني إخواني القرّاء، ليس فقط شبابنا من يفتقر إلى هذه المهارة في الحياة بل يفتقر لها معظمنا. أنظروا مثلا كيف أصبحنا ننظر للقضية الفلسطينية إجمالا والمجازر في حق الفلسطينيين؟ ولنتذكر كيف تعاطينا مع قضية الرسوم الكرتونية المسيئة للرسول، وموقفنا من أحداث الهجوم وحصار غزة عام 2008، وقضية مركب الحرية وغيرها كثير مما أثارالأمة الإسلامية لبعض الوقت (فقط) ثم ما لبثنا بعد ذلك أن عدنا إلى سابق عهدنا ربما بسبب اليأس أو انقطاع النفَس الاستراتيجي (الصبر) للمتابعة.
كثيرا ما نقرأ في كتب علماء الإدارة والقيادة عن الأهمية الاقتصادية للتخطيط الاستراتيجي على الدول والمؤسسات والأفراد والذي يختلف تماما عن التخطيط قصير الأمد أو ما يسمى بالتخطيط التكتيكي (Tactical). فالتخطيط الاستراتيجي عادة ما يطوّر من قبل الإدارات العليا للمؤسسات والدول بسبب نظرتهم الأشمل والأوسع للأمور بعكس التخطيط التكتيكي والذي يوكل عادة للإدارات الأدنى التي عادة ما تعايش واقع الأعمال اليومية بإيجابياتها وسلبياتها. يأخذنا هذا الأمر إلى موضوع التفريق بين مصطلح الرؤية (Vision) والرسالة (Mission) والتي تفاجأت بأن الكثير من صنّاع القرار لا يعون أهميتهما أيضا. فالرسالة هي الأسلوب المتبع للوصول إلى الرؤية والتي عادة ما تتصف بالاستمرارية وتهدف إلى تذكير الفرد أو الموظف أو المواطن بطريقة الوصول إلى الأهداف المرسومة. خذ على سبيل المثال رسالة شركة أبل الأمريكية والتي تعتبر اليوم من أنجح شركات التقنية في العالم: "تلتزم الشركة بتقديم أفضل تجارب الحوسبة الشخصية للطلاب والمعلمين والمهنيين المبدعين والمستهلكين في جميع أنحاء العالم من خلال منتجات الشركة المبتكرة من الأجهزة والبرمجيات وعروض الإنترنت". أما الرؤية فهي مجموعة الأهداف الواجب تنفيذها والتي عادة ما تكون قابلة للحساب والتقييم ومحددة بفترة زمنية قد تكون قصيرة الأمد (Short-term) أو طويلة (Long-term). فمثال على الرؤية كأن تضع شركة أبل لها هدف الاستحواذ على نصف سوق الأجهزة الدفترية (Tablet PCs) بغضون خمس سنين مثلا.
عند النظر في تأثير البعد الاستراتيجي على نجاحات الدول السياسية والاقتصادية والاجتماعية نجد من أنجح التجارب المعاصرة اليوم هي تجربة ماليزيا ورئيسها الأسبق "محاضر محمد" والذي يطلق عليه أغلبنا إسم (مهاتير) .فحسب ما ورد في تقرير سابق لقناة البي بي سي العربية استطاع هذا الرئيس خلال فترة رئاسته تحويل دولته من دولة فقيرة معتمدة على الزراعة إلى دولة صناعية تنافس كبرى دول العالم. فقد أسهمت اليوم الصناعات في ماليزيا فيما نسبته 90% من الناتج المحلي الإجمالي. الأمر الذي ساعد على تخفيض نسبة السكان تحت خط الفقر من 52% في عام 1970 إلى 5% فقط بحلول عام 2002. كما زاد معدل دخل الفرد في ماليزيا من ما يقارب الألف دولار سنوياً في عام 1970 إلى أكثر من 8500 دولار أيضا بحلول عام 2002 وانخفضت نسبة الباحثين عن عمل إلى 3% من نفس العام. كل ذلك نتيجة للعديد من الخطط الاستراتيجية التي وضعها هذا الرئيس وعلى رأسها الخطة الاستراتيجية لماليزيا (Wawasan 2020) أو رؤية 2020 طويلة الأمد، مما يؤكد الأهمية القصوى للبعد الاستراتيجي في التخطيط والتفكير والأعمال على نجاح الدول والمؤسسات والأفراد. أنصحكم إخواني القرّاء بقراءة كتاب "مهاتير محمد: عاقل في زمن الجنون" للكاتب الفلسطيني عبدالرحيم عبدالواحد للتعرف عن كثب على هذه التجربة الرائدة.
تبنت السلطنة كذلك في عام 1996 الخطة الاستراتيجية للدولة (رؤية 2020) إيمانا منها بالتخطيط الاستراتيجي بعدما كانت البلد في بداية النهضة المباركة في حاجة ماسة لإحداث تغييرات سريعة تم تحقيقها من خلال الخطط الخمسية في البلاد. تجدر الإشارة هنا إلى أن الخطط الخمسية في السلطنة قد تؤثر سلبا بشكل غير مباشر على فكر صناعة القرار في السلطنة بحيث قد يصبح جل اهتمام المسؤولين هو سرعة التنفيذ أحيانا وطلب سرعة الحصول على النتائج أحيانا أخرى. الأمر الذي قد يسهم في تهميش بعض المشاريع الاستراتيجية في البلاد كونها ستؤتي أكلها غالبا في الأمد البعيد. أنظر مثلا إلى مشروع الحكومة الإلكترونية وكيف تختلف المؤسسات الحكومية اليوم في نسبة تطبيقها لهذا المشروع والذي عادة ما يتطلب الكثير من النفَس الاستراتيجي لتنفيذ جميع مراحله. لذلك وجب التنبيه هنا إلى أهمية تذكير المسؤولين وصنّاع القرار بأهمية البعد الاستراتيجي في الأعمال وضرورة تربية وتعليم الأجيال الناشئة على مختلف أبعاد التخطيط الشخصي والمهني.