احتفلت السلطنة مطلع هذا الأسبوع باليوم العالمي للاتصالات ومجتمع المعلومات في حفل أقيم في فندق جراند حياة مسقط تم فيه عرض إنجازات السلطنة في هذين المجالين الحيويين. الحمد لله أولاً والشكر موصول إلى الحكومة أفراداً ومؤسسات في تحقيق ما وصلنا إليه بالرغم من الصعوبات الجغرافية والديموغرافية للبلاد. فقطاع الاتصالات يعتبر من أعمدة الاقتصاد القومي في السلطنة ومن أهم البنى الأساسية الواجب تطويرها في البلاد. كما يعتبر السعي لتعزيز مجتمع المعلومات في السلطنة بداية الطريق للتحول التدريجي لاقتصاد المعرفة أو الاقتصاد القائم على المعرفة والذي يعتبر اليوم (عالمياً ومحلياً) ضرورة لا مفر منها. فلم تعد قوة الدولة اليوم تقاس بمصادرها المالية أو النفطية أو العسكرية فحسب، بل أصبحت المعرفة ومستوى التعليم ومعدل خريجي الجامعات (كماً وكيفاً) أو ما يسمى برأس المال البشري هو المقياس الرئيسي للقوة والمؤشر المركزي لمستقبلها. الأمر الذي يؤكد على أهمية الارتقاء بمستوى التعليم والمعرفة داخل السلطنة ولكن يجب التركيز فيما إذا كان علينا في السلطنة أن نجعل من المعرفة غاية وهدف أم وسيلة للوصول إلى أهداف أسمى؟
لم تعد اليوم التنافسية حكراً على الشركات التجارية بل حتى المؤسسات الحكومية أصبحت أحياناً تتنافس فيما بينها لأسباب مختلفة. الأمر الذي أدى أيضاً إلى اشتداد التنافس بين الدول بشكل عام للارتقاء باقتصاداتها عن طريق الانخراط في كل ما من شأنه تعزيز مستوى دخل الأفراد وتقليل نسبة الباحثين عن عمل. لذلك نرى اليوم أنواعاً من الاقتصادات العالمية التي تركز في جوانب اقتصادية مختلفة كالجانب السياحي والجانب الصحي والجانب المعرفي والجانب الرقمي (التقني) وغيرها من التوجهات العالمية. لا نتكلم هنا عن الأنظمة الاقتصادية العالمية كالنظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي بل حديثنا عن توجهات الدول في تشجيع الاستثمارات المحلية والعالمية وضخ المصادر المادية للدولة في جوانب معينة تعتبر غالباً من أهم ما تتميز به الدولة. أنظر مثلا كيف استطاعت الصين في غضون سنوات معدودة من تقوية اقتصادها المعرفي، ففي مقالة لشبكة البي بي سي البريطانية، أشار الكاتب إلى أن الصين استطاعت زيادة عدد الطلبة الصينيين الملتحقين بالجامعات سنويا من ما يقارب مليون طالب في عام 1998 إلى أكثر من 34 مليون طالب جامعي (سنوياً) بحلول عام 2010. شيء مذهل في هذه الفترة الوجيزة خصوصاً إذا ما علمنا أن أغلبهم يدرسون في جامعات محلية وبلغات دولية مختلفة.
لذلك نرى اليوم توجها كبيرا بين مختلف الجامعات العالمية لإنشاء برامج أكاديمية وفروع في دول مختلفة وبلغات مختلفة كذلك. فالتعليم اليوم أصبح تجارة رابحة تدر أموالاً طائلة على المؤسسات التعليمية الأمر الذي ينعكس إيجاباً على اقتصادات المعرفة للدول. أنظر مثلا إلى المدينة التعليمية في قطر وكيف استطاعت استقطاب فروع لجامعات كبيرة من أمثال جامعة أوستن تكساس الأمريكية وجامعة كارنيجي ميلون بالإضافة إلى جامعة فرنسية تقدم برامج باللغتين الإنجليزية والفرنسية. واستطاعت كذلك دولة الإمارات استقطاب بعض الجامعات العالمية من أستراليا وأمريكا بهدف تعزيز اقتصادها المعرفي. أذكر أني لامست التأثير الواضح والقوي لقطاع المعرفة في استراليا عند ذهابي هناك لإكمال شهادة الدكتوراة. فبعد أحداث سبتمبر الدامية في نيويورك وتكوين التحالف البريطاني الأمريكي ضد الإرهاب الذي وجّه بشكل كبير نحو الدول المسلمة، أسهم ذلك في تغيير وجهة كثير من المتعلمين العرب والمسلمين. فبعد أن كانت وجهتهم الأولى هي أمريكا والدول الأوروبية، أصبحت وجهتهم إلى شرق آسيا واستراليا ونيوزيلندا. الأمر الذي ساهم في إنعاش اقتصادات هذه الدول، حتى اننا كنا نشهد سنوياً ارتفاع في تكاليف الدراسة والمعيشة وصرف العملة.
ختاماً، يجب التفريق بين مصطلحين مهمين هما "اقتصاد المعرفة" و"الاقتصاد القائم على المعرفة". فالأول يهدف إلى تقديم المعرفة كمنتج رئيسي تسعى من خلاله المؤسسات التعليمية والدول إلى استقطاب الطلبة محلياً ودولياً. فهو بذلك يعتبر المعرفة منتجاً كالنفط وبقية الموارد الطبيعية في البلد. أما المصطلح الثاني فيهدف إلى تقوية المعرفة المحلية في البلدان بما يخدم تطوير القوى العاملة المحلية واستحداث صناعات واقتصادات متقدمة تقنياً. لذلك فمن المهم أن نؤكد أن من الأفضل للسلطنة أن تسعى إلى تطوير اقتصاد قائم على المعرفة (وسيلة) للارتقاء بباقي القطاعات الحيوية في البلاد. الأمر الذي يؤكد كذلك على أهمية الإنفاق بسخاء (وإسراف أحياناً) على التعليم والتنمية البشرية والاجتماعية في البلاد. خذ على سبيل المثال جامعة هارفرد الجامعة الأولى في تخصص الأعمال التي رغم تأثر استثماراتها بالأزمة المالية العالمية إلا أنها ما زالت تنفق سنوياً ما يقارب من 3.5 مليار دولار على التعليم والبحوث الذي يفوق إنفاق بلدان متطورة أخرى، ناهيك طبعاً عن الجامعات. كما يجب علينا في السلطنة أن نسعى لتوجيه فكر الشباب والناشئة حول أهمية التعليم لضمان مستقبل أكثر استقرارا لهم (ماديا واجتماعيا). مؤكدين على بعض أسباب الأحداث الأخيرة من اعتصامات ومظاهرات سلمية التي أظهرت معاناة الباحثين عن عمل مما سيشجع الأجيال القادمة على أخذ التعليم والدراسة والمعرفة مأخذ الجد. ويجب كذلك على الجهات الخاصة والحكومية في السلطنة أيضاً تشجيع الكفاءات المحلية لمختلف الأعمال والبحوث والاستشارات المهنية.