ما أكثر ما نقرأ ونسمع عن المهنية (Professionalism) وضرورة التحلي بها قلباً وقالباً في حياتنا العلمية والعملية. فمنذ اليوم الأول لنا في الكلية وأساتذتنا الكرام يذكروننا بأهمية أن نكون مهنيين(Professional) في العمل، الأمر الذي جعلنا نعتقد أن الاتصاف بالمهنية هو الهدف الأسمى لنا في الحياة. ليس ذلك فحسب، بل أصبح أحدنا بعد ذلك يتشدق وينعت غيره بعدم المهنية عند رؤيتنا لبعض الأعمال الخاطئة أو الناقصة. فإن لم تنضبط في عملك أو لم تعلم كيف تتعامل مع الزبائن أو لم تستطع فصل العمل والعقل عن المشاعر والأحاسيس فأنت غير مهني. لذلك أصبحت المهنية اليوم هي كمال الوصف للشخص الدؤوب في العمل الذي لا يمكن لجهة عمله التخلي عنه ولو لبعض الدقائق. فهو بذلك يقضي الساعات الطوال وربما الأيام والشهور والسنين جهاداً للحصول على أعلى المراتب وللوصول بجهة عمله الى نجاحات متتالية باذلاً في ذلك كل نفيس. فكم من هؤلاء الناس عرفنا في حياتنا العملية وتمنينا أن نكون أمثالهم أو حتى أنصافهم، وأصبحوا يمثّلون المعيار الأساسي عند تقييم نجاحات الأفراد والمؤسسات. أعذروني إخواني القرّاء اذا أخبرتكم أنه وللأسف الشديد معظم هذه النجاحات مبطنة بالفشل، تابعوا وستعلموا لماذا وكيف؟
أتيحت لي الفرصة خلال فترة التدريب (Internship) لشهادة البكالوريوس العمل لمدة بسيطة مع أحد المهنيين (Professional) العمانيين في إحدى الجهات الحكومية. طبعاً كالمعتاد بسبب كفاءته العالية واعتماد جهة عمله الكبير عليه لم يتمكن من أخذ اجازة لعدة سنوات. استطاع صاحبنا هذا في الفترة التي قضيتها معه إقناع الوزير بالحصول على اجازة (مشروطة) لمدة أسبوع ليتمكن من أخذ عائلته الى صلالة في الصيف. لكم أن تتخيلوا كيف كان صاحبنا هذا يستمتع بالرد على المكالمات خلال هذه الإجازة بدلاً من الاسترخاء مع أولاده، الأمر الذي اضطرّه لقطع اجازته والعودة الى العمل بعد أيام من بدايتها (ضرورة عملية)، فهل هذا النجاح الذي يجب أن نسعى اليه؟ من جانب آخر، جاءتنا إحدى الخريجات بعد سنوات من تخرجها من الجامعة لتشاركنا في محاضرة جماعية بقصة نجاحها وكيف استطاعت أن تثبت قدراتها وأن تتبوأ مركزاً ومنصباً متقدماً في جهة عملها. أذكر أنها ذكرت (بفخر) أنها تعمل حالياً بجد كبير مما يجعلها في كثير من الأحيان لا تغادر العمل قبل ساعات متأخرة من الليل. لا ندري أكان علينا أن نهنئها أم نعزيها فيما صارت اليه؟ وهناك دائماً ذلك الموظف المهم صاحب المنصب العالي في الشركة المرموقة والذي أصبح بعد سنوات مهنية طويلة يستلم آلاف الريالات شهرياً لا تتجاوز في كثير من الأحيان حسابه البنكي. فمن أين له الوقت بالاستمتاع بالمال وطوال وقته في العمل وللعمل وإلى العمل. يذكرني هذا بقول أحد الحكماء واصفاُ بعض الناس المهنيين (يضيّعون صحتهم ليجمعوا المال، ثم يصرفون المال ليستعيدوا الصحة). كل ذلك وأكثر مما أفرزته لنا خدعة المهنية عندما لم نحسن موازنتها بين مختلف جوانب الحياة.
في دراسة أجرتها الدكتورة منى المنجد بعنوان مخاطر ومضامين ارتفاع نسبة الطلاق في دول الخليج العربي، بينت الباحثة ازدياد نسبة الطلاق في دول الخليج بشكل يثير القلق. حيث كانت أعلاها في دولة الكويت بنسبة37.1% بنهاية عام 2007. أرجعت الباحثة هذه الزيادة الى عدة أسباب رئيسية منها عالم الحداثة وتأثيرات العولمة وانشغال الناس الكبير بتحصيل لقمة العيش. وفي مقالة أخرى نشرتها صحيفة الإمارات اليوم في مطلع شهر مارس الماضي، أشارت الصحيفة الى ازدياد نسبة الطلاق في دولة الإمارات أيضاً ووصولها لنسبة 36% بنهاية عام 2010. ناهيك طبعاً عن بقية المشاكل الاجتماعية التي بدأت تنتشر في بلداننا العربية أجمع كالجرائم الاجتماعية بأنواعها والتفكك الأسري. الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن الأسباب في ظل النجاحات المهنية الكبيرة التي نعيشها اليوم على مستوى الأفراد والمؤسسات، تلك الأسباب التي توكل عادةً الى المهنية المفرطة وانشغال الناس بالجانب العملي وتفريطهم في جوانب الحياة الأخرى.
طبعاً هناك الجانب الآخر من القطعة المعدنية وهم أولئك الكسالى الذين لا يكادون يحدثون فارق في جو العمل، ومع ذلك فهم دائمو التذمر ونراهم في المقدمة فقط عند طلب الإجازات أو للسعي الى المكافآت المادية الدورية. أذكر أن أحد المسؤولين الحكوميين أخبرني يوماً أن جهته الحكومية (بدون ذكر أسماء) تعاني من أكثر من مائتي موظف ليست لهم وظيفة محددة، بحيث أصبحت تتناقلهم مختلف الدوائر والأقسام دون جدوى. ليس المطلوب هنا أن نتكاسل عن العمل بل على العكس تماماً فالمطلوب أن نكون مهنيين في كل شيء. علينا أن نعلم أن حياتنا مقسمة الى عدة جوانب منها الجانب الديني والاجتماعي والصحي والترفيهي بالإضافة الى الجانب العملي والعلمي. فلا افراط ولا تفريط، وعلينا أن نكون مهنيين في هذه الجوانب كلها ان استطعنا أو على الأقل أن لا ننسى (أو نتناسى) بعض هذه الجوانب لحساب أحدها. فالأمانة والجد والاجتهاد مطلب في كل ميادين العمل والحياة بما فيها المجتمع الذي أصبحنا نتذمر من سلبياته التي شاركنا فيها بشكل مباشر وغير مباشر، "نلوم زماننا والعيب فينا، وما لزماننا عيب سوانا".
مقال جميل .. شكرا لك د. حافظ
ردحذفوهذا بالفعل ما نأمله .. تحقيق التوازن بين العمل ولإستمتاع بالحياه .. ولكن للاسف من الصعوبه أحيانا تحقيق ذلك !!
صدقت دكتور!! نرى كثير من (المهنيين)يسعون وراء المال على حساب الصحة!! فماذا استفادوا في النهاية؟؟؟
ردحذفلابد من الموازنة ( وإن لبدنك عليك حقآ ، وإن لأهلك عليك حقآ) كما قال رسولنا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه...ولو طبقنا ما جاء به الوحيين( القرآن والسنة) لعشنا حياة مرتبة سعيدة متوازنة في كل شيء ...
شكرآ جزيلآ لك دكتور
صدقت أستاذنا. وهذا ما نعيشه اليوم على أرض الواقع. بصراحة أرى كثير من الناس مهتمون بالدرجة الأولى كيف يكونوا مهنيين في بيئات عملهم ولكن لم يهتموا كيف يكونوا مهننين في الجوانب الأخرى من الحياة.
ردحذفمما شدني في هذا المقال أمر تلك الطالبة فهل نرثي لحالها أم...
فسؤالي موجه إلى أولئك الذين يمضون جل وقتهم في العمل والتي قد تصل في معظم الأحيان الى ساعات متأخرة من الليل :ماذا قدمتكم لمجتمعكم؟ ماذا قدمتم لأمتكم؟ ماذا قدمتم للمؤسسة نفسها؟ أرونا ابداعاتكم.. أرونا انجازاتكم.. أطلقوا العنان على هذه الانجازات التي حققتموها ان كنتم تصرفون معظم أوقاتكم في العمل لتتحدث على أرض الوطن.
وأخيرا لا تفهموني خطأ. أنا لم أقلل شأن أولئك المهتمون بأعمالهم ولكن لومي اننا لم نرى الشيء المتوقع بعد.