لعل من أهم الأعمال التي نقوم بها يومياً دون أن نلقي لها بالاً في أغلب الأحيان هي عملية اتخاذ القرارات. فمنذ ساعات الصباح الأولى ونحن نواجه مواقف مختلفة تنتظر منا الاختيار واتخاذ القرارات العملية أو اللفظية. فقرار الذهاب إلى العمل مثلاً الذي قد يجده البعض أمراً مسلّماً به، يعتبر قرارا سريعا نابعا عن تحليل الكثير من المعلومات (اليوم والساعة والحالة الصحية وتوفر النقل وحالة الجو والظروف الاجتماعية وغيرها) مدعوم بمحفزات داخلية (أحياناً) وأخرى خارجية (غالباً). يشير خبراء التنمية البشرية إلى أن الإنسان يتأرجح في اتخاذ القرارات بين عاملين مهمين هما العقل والعاطفة واللذان نادراً ما يجتمعا في أحد القرارات. فعند الرغبة مثلاُ في شراء سيارة أو بناء بيت أو اختيار وظيفة أو تخصص دراسي أو الشروع في مشروع تجاري أو التخلي عن استثمار فاشل وغيرها من القرارات نجدنا عادةً ما نغلّب أحد هذين الجانبين على الآخر. فنجد من يفضل شراء السيارة الفارهة أو البيت الفخم بالأقساط المتعبة (عاطفة)، ونجد من يختار التخصص الدراسي على حسب حاجة السوق (عقل) وقيسوا على ذلك. الشاهد هنا أن عملية اتخاذ القرار الصحيح باتت اليوم من أهم المهارات وأصعبها على الناس مما جعلنا ننتهج أساليب مختلفة للوصول إلى القرار الصائب تتباين هذه الأساليب بين زيارة العرّافين في أسوأ الحالات والشورى في أحسنها.
يقوم اليوم كثير من الباحثين في علم الإدارة بدراسة عملية اتخاذ القرارات بين مختلف أصناف البشر والمؤسسات بأنواعها التجارية والحكومية بهدف تفسير العوامل المؤثرة في اتخاذ القرارات الصحيحة. فشغل الناس الشاغل اليوم في مختلف المهن التجارية والحكومية هو اتخاذ القرارات الأصح في الوقت الصحيح وبالطريقة الصحيحة. لذلك نرى توجه العديد من المؤسسات لاقتناء مختلف الأنظمة الإلكترونية التي تهدف إلى دعم عملية اتخاذ القرارات داخل المنظمات كأمثال أنظمة دعم القرار الإلكترونية (Decision Support Systems) وأنظمة الخبراء (Expert Systems) وأنظمة الرؤساء التنفيذيين (Executive Information Systems) التي تهدف جميعاً لتوفير المعلومات والمعرفة المناسبة في الوقت المناسب وللشخص المناسب وبالكم والكيف المناسبين لضمان صحة وفاعلية القرار. فالقرارات المتسرعة قد تكلفنا الكثير حتى وإن لم تكن خاطئة. الأمر الذي يشير إليه خبراء الاقتصاد بمفهوم تكاليف الفرصة (Opportunity Costs) وهو الفرق في الربح أو التوفير بين نتائج القرار الحالي والنتائج المتوقعة من فرصة اتخاذ قرار أفضل.
أجرى مؤخراً بعض الباحثين الدنماركيين التابعين لشركة الاتصالات الدنماركية تلينور (Telenor) دراسة عن تأثير روابط الصداقة بين الشباب في اختيارهم للمنتجات الإلكترونية من أمثال أجهزة الحاسوب والأجهزة اللوحية. حيث بيّنت الدراسة أن معظم الشباب اليوم يميلون لاختيار وشراء نفس الأجهزة التي يرونها مع أصدقائهم، أي أنهم يتأثرون إيجاباً وسلباُ بقرارات أصدقائهم في موضوع شراء الأجهزة الإلكترونية. فمثلاً عند شراء بعض الأصدقاء لنوعية معينة من الهواتف المحمولة أو أجهزة الحاسوب وغيرها، يؤثر ذلك عادة على بقية الأصدقاء الآخرين (بحسب قوة روابط الصداقة بينهم) مما يجعلهم يشترون نفس الأجهزة غالباً. لا يعتبر هذا بشيء جديد علينا فنحن نعلم منذ القدم أن (الصاحب ساحب) ونرى ذلك واضحاً بين الكثير من شبابنا فنرى الأصدقاء يرتدون الملابس نفسها ويرتادون نفس الأماكن ويهتمون بنفس الألعاب والهوايات وهو تفسير أيضاً للمقولة الشهيرة «الطيور على أشكالها تقع». الجديد هنا أن نعلم البعد النفسي والاجتماعي في عملية اتخاذ القرارات بشتى أنواعها التي قد تفسر لنا كثيراً من القرارات الناجحة والخاطئة على حد سواء. الأمر الذي يشجعنا لعمل المزيد من الدراسات لفهم أسباب اتخاذ القرارات بين الناس والمؤسسات بما يساهم في بناء الكفاءات البشرية مستقبلاً وتحسين عملية إصدار القرارات بشكل أكثر دقة وفاعلية.
يذكرني هذا ببحث آخر أجريته من خلال دراسة الدكتوراه عن النمطية/التنميط (Stereotyping) أو ما يسمى بالقولبة في التفكير بين مواطني دول الخليج وبناء القرارات على القيل والقال وكثرة السؤال. حيث بيّن البحث أن الشعب الخليجي بشكل عام والعماني بشكل خاص يميل إلى تنميط التجارب السيئة اجتماعياً وتجارياً بما يؤثر سلباً على سمعة الجهة المنمّطة. أضف إلى ذلك بناء القناعات والقرارات بين الناس بتأثير قوة الكلام (Words of Mouth) خصوصاً مع سرعة انتشار الشائعات والأقوال وتصديق الناس لها بشكل كبير. نجد ذلك ملحوظاً بين العديد من المواطنين اليوم خصوصاً فيما يخص الأنظمة الإلكترونية التي تعاني من قلة الاستخدام لعدة أسباب من بينها عدم ثقة المستخدم في النظام الإلكتروني أو في الجهة المنفذة. الشاهد هنا أن هذه العوامل (وأخرى أيضاً) عادةً ما تؤدي إلى تهميش الفكر والهوية والشخصية بين الشباب عامةً مما يجعلهم في أحيان كثيرة يتخذون قرارات غير صائبة أو متسرعة مبنية على جمود في التفكير وعدم قدرة أو رغبة حقيقية في التغيير إلى الأفضل. يذكرنا هذا بمثال الفرق بين القرش والديناصور الذي يستخدمه خبراء التنمية البشرية. فبالرغم من نشوء هذين الحيوانين في نفس الفترة الزمنية من تاريخ الكرة الأرضية، إلا أن القرش استطاع التأقلم مع المستجدات ومقاومة التغيرات الكونية والزمانية بشتى السبل (القرارات) في حين لم يستطع الديناصور تكملة المشوار وانقرض بسبب افتقاره للمرونة في التفكير. لذلك (إن صح هذا المثال) علينا جميعاُ أن نكون قروشاً عند اتخاذ القرارات وأن لا نتشبه بجمود فكر الديناصورات فننقرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق