تعتبر
سياسة التعمين من أفضل السياسات الوطنية في السلطنة وأذكاها، فقد كانت
السلطنة من أوائل دول المنطقة وربما العالم أجمع التي أبدعت هذه المنظومة
لتقليل الاعتماد على الأيدي العاملة الوافدة وتقليص عدد الباحثين عن عمل.
فلا ننسى سعي العديد من الدول الخليجية في مطلع القرن الحادي والعشرين
للاستفادة من هذه التجربة، فقد التقيت في منتصف العقد الماضي بأحد الزملاء
الإماراتيين وهو يحضر رسالة دكتوراة محاولا أن يستفيد في دراسته من التجربة
العمانية فيما يسمى بـ(الأمرتة) وهو مصطلح مشابه لمصطلح التعمين عندنا،
وسمعنا بعد ذلك أيضا بمصطلح (السعودة) من إخواننا في السعودية، وهلم جرا.
فالشاهد هنا أن عملية توطين الوظائف تعتبر من السياسات الضرورية في منطقة
الخليج العربية والتي تعكس رؤية وطنية ذكية طويلة الأمد إن أحسن القائمون
عليها التخطيط والتنفيذ، وهنا مربط الفرس. فهل يا ترى احسنا التخطيط لسياسة
التعمين في السلطنة بشكل لا يؤثر على جودة العمل؟ فلطالما سمعنا الكثير من
العبارات المحبطة التي تدعي بأن الشباب العماني لا يُعتمد عليه بشكل عام،
فهل هم كذلك فعلا؟ وهل تحولت سياسة التعمين إلى سياسة أخرى أقرب للتأمين
الوطني في محاولة لتوظيف الباحثين عن عمل بشكل عشوائي لا لشيء إلا لتقليل
مخاطرهم الاجتماعية؟
بداية
وللرد على جميع من يظن أن العمانيين بشكل عام ليسوا ذوي همة بالمقارنة مع
الجنسيات الأخرى، استطيع القول إنه يمكن اليوم لكل من درس أو سافر خارج
السلطنة أن يشهد بأن أداء الطلبة العمانيين يعتبر الأفضل بين بقية الطلبة
العرب بشكل عام، ليس فقط في التحصيل العلمي بل في الأخلاق والانضباط
والتمسك بالعادات والتقاليد. هذا من جانب، ومن جانب آخر يعلم أيضا كل من
عمل أو يعمل في القطاع الخاص سواء داخل السلطنة أو خارجها أن كفاءة
العمانيين يشار لها دائما بالبنان وعادة ما تسعى كبرى الشركات العاملة في
دول الخليج لتوظيف العمانيين بسبب السمعة الطيبة التي تركها أقرانهم
السابقون. فمعظم العمانيين العاملين خارج السلطنة (على قلتهم) يتبوؤون
مراكز مهنية عليا في شركات عالمية ويحققون تميزا بين نظرائهم من الجنسيات
العربية والأجنبية الأخرى. اعلم ذلك يقينا لأني التقي بالعديد من الزملاء
الذين انهو دراسة البكالوريوس في الجامعة وبعد ذلك تدرجوا في أعمالهم
المهنية بداية بالقطاع الخاص في السلطنة وانتهاء ببعض كبرى الشركات
العالمية في دول مجلس التعاون وأوروبا وشرق آسيا وأمريكا. ليس ذلك فحسب،
حتى طلابنا اليوم في الجامعة نراهم يحصلون على فرص تدريبية وعملية في دول
مجاورة بشكل أسهل من الجنسيات الأخرى. الأمر الذي يدل على أن العنصر
العماني قادر على تحقيق التميز إن توفرت له البيئة الصحيحة، فهل وفرنا
البيئة المناسبة للعاملين داخل السلطنة؟ ولماذا يستطيع بعض العمانيين
النجاح خارج البلاد ولا يستطيع تكرار ذلك داخلها؟
عند
التمعن اليوم في عملية التعمين نجد أنها تمشي بخطط بسيطة تسعى إجمالا إلى
إجبار الشركات بنسبة معينة لتوظيف العمانيين تختلف باختلاف حجم ونشاط
الشركة. للأسف أرى هنا أننا اغفلنا عنصر إيجاد البيئة العملية المناسبة
والتي تستطيع أن تظهر وتفجر إمكانيات الموظف العماني الصحيحة. فما أسهل أن
نعين عمانيين في وظائف وهمية أو هامشية لغرض إكمال نسبة التعمين دون أن
يكون هناك خطة لإبراز إمكانياتهم واختبار إصرارهم. الأمر الذي افرز لنا
موظفين سلبيين لا يساهمون في العمل إلا بالحد الأدنى مما ساهم في إيجاد
سمعة داخلية جديدة عن الكادر العماني تختلف مائة وثمانين درجة عن سمعتهم
خارج البلاد. ليس ذلك فحسب، فأصبح هذا الأداء الوظيفي أشبه بالوباء المعدي
الذي يصيب كل الموظفين الجدد مما ساهم في تعزيز السمعة السلبية خصوصا في
الوظائف الحكومية والأعمال الدنيا في القطاع الخاص. لذلك أرى أن سياسة
التعمين يجب أن لا تهمل عامل الجودة والكفاءة في العمل مهما تطلب الأمر.
فكما إننا ندعو إلى تجديد الدماء في العديد من الوظائف بحجة عجز الموظفين
الحاليين عن الإتيان بجديد، كذلك هو الحال في تجديد المهارات والخبرات
والتي لا تتأتى بالتعمين والانغلاق على الذات فقط بل بالانفتاح على العالم
والتمازج مع الغير. فلا شيء يفيد الإنسان ويصقل مواهبه كتعدد الخبرات
العملية والانفتاح على أفكار وخبرات دولية والتي عادة ما تأتي بالاختلاط
بجنسيات متعددة. لذلك علينا اليوم أن نهتم ليس فقط بإحلال الأيدي العاملة
الوطنية مكان الوافدة بل وإحلالها معها كذلك، ليتسنى لهم اكتساب المهارات
والخبرات أولا بشكل يضمن لنا بشكل يضمن لنا جودة العمل بعد رحيل الأيدي
العاملة الوافدة. قد يكون ذلك عن طريق الابتعاث للدراسة والتدريب خارج
السلطنة بدلا من خيار التدريب داخلها رغم كونه اكثر كلفة. فالهدف هنا ليس
في التدريب فقط بل أيضا في الانفتاح على التجارب الدولية والاحتكاك بمختلف
جنسيات العالم. هناك أيضا بيوت الخبرة والشركات التي تستعين بها السلطنة من
وقت لآخر في مشروعاتها التنموية والتي يمكن الاستفادة منها بدمج اكبر قدر
من موظفينا العمانيين فيها لاكتساب الخبرات اللازمة التي تغنينا عن
الاستعانة بها مرة أخرى وتحقق لهم الامتزاج المرغوب. كما يمكن للدوائر
الحكومية المشبعة بالكوادر المحلية والتي عادة ما تفتقر للخبرات الدولية،
الاستعانة بين الحين والآخر بعدد من الخبراء والأيدي العاملة الاجنبية في
مختلف المستويات الوظيفية ليس فقط لإثراء عملية دعم القرار ولكن ايضا
لإيجاد بيئة عمل جديدة يمكن ان تساهم في هدم بعض العقد الفكرية وتصحيح بعض
العقليات التي للاسف ما زالت تساهم حاليا بنجاح في ابطاء عمليات التنمية في
البلاد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق