الجمعة، مارس 04، 2011

إقتصاد التقليد

إنتشر التقليد بأشكاله المختلفة في العالم حتى أصبح فناً تتباهى به بعض الدول والمؤسسات التجارية. ولم يقتصر التقليد على الدول الفقيرة بل طال كذلك بعض الدول المتقدمة في بعض الحالات الاستثنائية. ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً قامت شركة فندي (Fendi) في وقت سابق بمقاضاة شركة وول مارت (Wal Mart) لبيعها منتجات زائفة من حقائب فندي الجلدية. لا نعلم بالطبع ان كان ذلك عملاً متعمداً أم أن شركة وول مارت وقعت فريسة فنون التقليد المختلفة المنتشرة في العالم اليوم. فهناك الكثير من مصانع الماركات العالمية في كبرى الدول الداعمة للمنتجات المقلدة كالصين وتايوان تحتوي على أقسام خاصة بانتاج الزائف من المنتجات مستخدمةً في ذلك مكونات أرخص وأقل جودة. كما قامت شركة تيفاني (Tiffany) بمقاضاة شركة اي باي (eBay) الأمريكية أيضاً لسماح الأخيرة للمستهلكين من خلال موقعها ببيع منتجات الشركة الأولى المقلدة. كل ذلك يعتبر فقط غيضا من فيض في عالم يمشي بخطى واسعة ليس نحو الابداع في الجديد بل الى الابداع في التقليد، بحيث انقسم المنتجون الى قسمين أحدهما مبدع والآخر مقلد، فأين موقعنا نحن؟

يعزى أكبر أسباب هذا النمط الاقتصادي (التقليد) الى العولمة التي نعيشها اليوم وتأثيراتها الكبيرة على المؤسسات التجارية. فحدة ونوعية التنافس السوقي اختلف عن ما كان عليه في الماضي بحيث أصبحت الشركات تتنافس بشكل عالمي مما أجبرها على تبني استراتيجيات انتاجية وتسويقية جديدة كخيار الاستعانة بالسلع الرخيصة مثلاً لتقليل المصاريف. أنتج لنا ذلك مصانع عالمية في دول فقيرة تحاول تحسين اقتصادها بشتى السبل الممكنة ومنها التقليد طبعا وخرق حقوق الملكية الفكرية. فقد قدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) حجم مبيعات المنتجات المقلدة بـ 1.95% في عام 2007 اي ما يساوي تقريباً 250 مليار دولار، نسبة ليست بالبسيطة خصوصاً اذا ما علمنا أنها في ازدياد بسبب الطلب المتزايد على هذه النوعية من المنتجات. انظر مثلاً الى تهافت الناس على الأسواق الصينية والتايلندية والهندية ومنتجاتها المقلدة في كافة القطاعات. الأمر الذي يجعل المستهلك حيرانا ومتشككا خصوصاً ان أراد شراء المنتج الأصلي والذي لا يستطيع تمييزه عن المنتج الزائف الا المختص.

طالت فنون التقليد جميع القطاعات الاقتصادية بما فيها المنتجات الاستهلاكية كالملابس والعطور والأدوية والالكترونيات بالاضافة أيضا الى أساليب العمل والحلول التجارية والمستندات الرسمية (التزوير). بالرغم من ذلك نجد الفروق بين المنتجات المقلدة والأصلية تتباين باختلاف النوعية، فالمنتجات الالكترونية المقلدة مثلاً يسهل التمييز بينها بسبب فارق الجودة الواضح والملموس عند الاستخدام. أما قطاع الملابس والأحذية والحقائب والساعات وغيرها فيصعب التمييز بينها نظراً للتشابه الكبير في المظهر وهو غالباً ما يهتم به أكثر الزبائن. المصيبة هنا أن يقصد بالتقليد الغش بحيث تقدم المنتجات المقلدة على أنها أصلية وتباع بنفس السعر. فهناك تدرجات في التقليد كما هو معلوم وهناك ما يسمى بين الناس بالتقليد درجة أولى وهناك ما يتم تقليده بكفاءة عالية ليشابه الأصلي تماماً ولو لبعض الوقت حتى يتسنى للمنتجين بيعه للزبائن على أنه أصلي.

لم يقتصر التقليد على المنتجات الاستهلاكية والجانب الاقتصادي فقط بل شمل الجانب الاجتماعي كذلك من خلال أفكار الناس وطبائعهم ومعتقداتهم. فنرى التقليد واضحا بيننا نحن العرب من خلال برامجنا التلفزيونية كبرنامج من سيربح المليون وبرنامج دلع سيارتك والرابح الأكبر وغيرها كثير مما يعتبر نسخا مكررة لبرامج غربية. ليس ذلك فحسب، فالعديد من المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية وغيرها من منتجات الاعلام العربي هي في حقيقة الأمر لا تتعدى كونها ترجمات لمنتجات مشابهة من دول غربية. ناهيك طبعاً عن التقليد في اللباس والأكل واللغات والعادات والحياة بشكل عام مما بدأ يهدد هويتنا العربية الاسلامية ويقتل الابداع بين شبابنا. فلا نستغرب بعد ذلك ان نرى العديد من كبار الموظفين لا يستطيعون مثلا كتابة تقرير أو رسالة دون الرجوع الى مستندات مماثلة سابقة للاستعانة بها (تقليدها). كل ذلك مما يؤثر ايجاباً وسلبا على اقتصاديات الدول وتجعلها تتذبذب بين مؤيد ورافض للتقليد. فهناك من يرى فيه خياراً أمام الطبقات المتوسطة والسفلى في المجتمع ليهنأوا ببعض رفاهية الطبقة العليا. وهناك من ينازع في الأمر من منظورأخلاقي ليس ايماناً به (ربما) ولكن وسيلة لفرض قيود على التقليد واثراء الشركات العالمية. فهل أنتم اخواني القرّاء مع التقليد أم ضده؟

هناك 3 تعليقات:

  1. أبارك لكم أستاذنا على هذا التميز. ودائما انا من المهتمين بكتاباتكم.بصراحة شدتني عبارة " التقليد في اللباس والأكل واللغات والعادات والحياة بشكل عام" وهذا التقليد واضح بشكل جلي في قصات الشعر وفي .... لدى معظم شبابنا هداهم الله فهل الامة الاسلامية تنتظر من أمثال هؤلاء من يعيد صياغتها؟
    ثانيا: التقليد في الافكار والمعتقدات فأصبحنا امعة لاولئك الذين يحاولون ان يأخذوا منا كل مأخذ ويحاولوا تشويه ديننا ونحن ما زلنا على خطاهم نقتفي وهذا ما نشاهده اليوم في برامجنا التلفزيونية.

    ردحذف
  2. كلامكم عين الصواب دكتور ... نرى من أخواتنا الفتيات تقليد أعمى بمعنى الكلمة!! يقلدون في كل شيء .. أشياء سخيفة جدآ (وعذرآ على الكلمة) ..صايرة حيآتهم تقليييد .. أسأل الله أن يهدينا وإياهم للطريق الحق ..

    شكرآ دكتور ...

    ردحذف
  3. التقليد إن هو إلا طبع من الطباع التي جُبِل الناس عليها .. ولكن كما يقال دائما إن كل شيء يمكن أن يكون له جانب خيِر وجانب ليس بخيِر .. ويعتمد هذا على طبيعة استعمال الإنسان لهذا الشيء .. فيمكن أن يقلد الإنسان غيره في الأمور الحميدة التي توصله إلى أعلى مراتب السمو الإنساني في شتى المجالات .. ويمكن أن يقلد غيره في أمور قد لا تعود عليه بالنفع الحقيقي .. وإنما قد تحقق له مجدا أو سعادة زائفين يتصورهما حقيقيين.
    قرأت ذات مرة في كتاب من كتب تطوير الذات عن بحث أجراه عالما نفس أمريكيان –على ما أذكر- وأثبتا فيه أن عقل الانسان يحتوي يوميا على اكثر من 60000 فكرة سلبية كانت أم إيجابية .. وأن 80% من الأفكار التي يستقبلها الانسان يوميا هي أفكار سلبية ولا تعمل لصالحه.

    أعتقد جازما أن التقليد في المجال الإستهلاكي يبدأ من الإعلانات التجارية التي تصور الممثلين في هذه الإعلانات على أنهم أناس سعداء يتمتعون بالصحة الجسدية والنفسية .. كما أنهم يتمتعون بالجاذبية الجنسية بسبب تملكهم للسلع التي يتم الترويج لها في هذه الإعلانات .. وتصور للناس أنه يمكن لهم أن يتمتعوا بذات السعادة والصحة الكبيرتين والجاذبية الجنسية المفرطة إن هم قلدوا هؤلاء الممثلين وتملكوا هذه السلعة أو تلك .
    أما عن التقليد في المجال الإجتماعي فقد قال عنه العلامة ابن خلدون في مقدمة كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه . فقد جعل هذا الأمر قاعدة من قواعد السلوك التي تتبعها أي أمة مغلوبة .. فالأفكار والمعتقدات التي تنشأ في الحضارة الغربية والأمريكية خصوصا يتم تسويقها ونشرها على مستوى العالم من خلال العولمة بوسائل شتى وخصوصا عبر وسائل الإعلام .. ولأن التلفزيون أصبح اليوم يصنف على أنه المصدر الأول للمعرفة والثقافة للكثيرين فهؤلاء الكثيرون يقلدون ما يرونه من أفكار وطرق معيشة وأنماط سلوك بسبب تجذر وتعمق فكرة أن ما يرونه هو نتاج الحضارة المتقدمة في هذا العصر وأنهم إن قلدوا ما يرون أصبحوا حضاريين ومتقدمين !! ولا تنسى أيها الفاضل أن كثيرا من النفوس ضعيفة تهوى تقليد الإنحلال الذي يتم ترويجه على أنه قمة الرقي والسمو الإنسانيين .

    السلام عليكم

    ردحذف