سبق وان تحدثنا في مقالة سابقة بعنوان (التقنية تقلق الشركات) عن تسبب
التقنية في تهميش بعض القطاعات التجارية كأمثال قطاع مكاتب السفر وقطاع تأجير
السيارات واللذان أصبحا يعانيان من انخفاض ملحوظ في أرباحهم السنوية خصوصاً مع
انتشار مواقع حجوزات السفر الالكترونية وظهور قطاع جديد في عالم تأجير السيارات
وهو قطاع تقاسم المركبات (Car Sharing) المبني
على التوظيف الذكي للتقنية الحديثة. لذلك تعتبر التقنية اليوم سلاحا ذا حدين من
حيث التأثيرات الإيجابية والسلبية على قطاع الأعمال التجارية، وغالباً ما تكون الإيجابيات
واضحة للعيان على عكس السلبيات التي يعكف المحللون والباحثون باستمرار على
اكتشافها بين الحين والآخر. كما تحدثنا سابقاً ايضاً عن مختلف سلبيات التقنية
الحديثة على شرائح المجتمع التي قد تصل في بعض الأحيان إلى التسبب في موت العشرات
من الناس (مقالة التقنية القاتلة) ولكننا اليوم بصدد تقديم أحد أهم التأثيرات
المزعجة للتقنية على قطاع الأعمال في العالم أجمع وهي عندما تتسبب في سحب بساط
النجاح والاستمرارية من تحت بعض الصناعات أو النشاطات التجارية لحساب نشاطات أخرى .
نجد اليوم وبدون سابق إنذار أن التقنية قد تسببت في انخفاض مبيعات
الشركات المصنعة لآلات التصوير بعد انتشار الهواتف الذكية والتي عادةً ما تأتي مدمجة
بآلات تصوير أثبتت مؤخراً جدارتها ومنافساتها القوية لآلات التصوير الصغيرة (Point and Shoot).
فقد أظهرت آخر الإحصائيات التي قامت بها مجموعة (NBD) الأمريكية بأن قطاع آلات
التصوير الرخيصة بنوعيها الثابت والفيديو (Camcorders) قد شهدت انخفاضا يقدر بـ
17% عن العام الماضي بسبب تطور آلات التصوير في الهواتف الذكية التي أصبحت مؤخرا
تدعم تسجيل الفيديو عالي الجودة. الأمر الذي ساهم كذلك في تحسين مبيعات القطاعات
الأخرى من آلات التصوير من أمثال آلات التصوير الاحترافية بمقدار 12% عن العام
الماضي والذي يعزى إلى رغبة المستهلكين في شراء آلة تصوير بمزايا أكبر من تلك المدمجة
في هواتفهم. فأصبحت التقنية هنا المسبب لهدم وبناء الأعمال على غرار المثل القائل
مصائب قوم عند قوم فوائد.
من جانب آخر وفي قرار مفاجئ من شركة فولكس واجن
(Volkswagen) الألمانية، قررت الشركة تعليق خدمة البريد الالكتروني لهواتف
البلاكبيري في فترة المساء على معظم الموظفين بهدف توفير حياة أكثر توازنا لهم.
يقضي القرار بغلق الخدمة نصف ساعة بعد انتهاء وقت العمل وإعادة فتحها قبل نصف ساعة
من بداية وقت العمل بهدف تقليل ضغوط العمل وتوفير المناخ المتوازن للموظف. ففي الوقت
الذي يرى بعض الناس أن شغف الموظفين في العمل خلال المساء وخارج أوقات العمل هي من
اهم صفات التفوق وأسباب النجاح في الحياة، وعت شركة فولكس واجن وغيرها من الشركات
أيضاً إلى ضرورة حث الموظفين على التوازن في الحياة عن طريق تقسيم أوقات اليوم على
مختلف جوانب الحياة بدون إفراط ولا تفريط. طبعاً لن يمنع هذا القرار الموظفين من
الوصول إلى بريدهم الالكتروني بسبب توفر البدائل الكثيرة الأخرى اليوم المنتشرة
على مختلف الهواتف وتطبيقات الإنترنت ولكني أرى أن القرار هو بمثابة تشجيع لأرباب
العمل على تقدير ظروف الموظفين خارج الشركة وعدم تكليفهم بالكثير من الأعباء التي تحتاج
لأوقات خارج أوقات العمل الرسمية . كما أن هذا القرار أيضاً يوفر للموظفين
ارتياحاً نفسيا ورسميا من ضغوط العمل ووطأة أرباب العمل مما قد يساهم في رفع
إنتاجيتهم. من هنا نجد أنه بالرغم من إسهام تقنية البريد الإلكتروني لأجهزة
البلاكبيري في دعم قطاع الأعمال بشكل عام، إلا أنها في الوقت ذاته قد تسببت بشكل
غير مباشر في هدم بعض جوانب الحياة الخاصة للموظفين.
وبما أننا بصدد الحديث عن أجهزة البلاكبيري المصنعة من قبل الشركة
الكندية (Research In Motion)، فإنها تعتبر اليوم مهددة
بالزوال على غرار أجهزة بالم (Palm) الأمريكية
التي لم تستطع مقاومة المنافسة الشديدة في قطاع الهواتف الذكية بحيث انتهى بها
المطاف ان تباع لشركة (Hewlett Packard) في عام
2010 مقابل مبلغ 1.2 مليار دولار أمريكي. فقد أعلنت الشركة الكندية مؤخرا تأجيل
موعد إصداراتها الجديدة من هواتف البلاكبيري في نسختها العاشرة بسبب تأخر تصنيع
بعض شرائح تشغيل الهواتف الداعمة لتقنية (LTE).
الأمر الذي اعتبره بعض المحللين ما هو إلا أكذوبة أراد بها الرئيس
التنفيذي المساعد (Mike Laziridis) للشركة
كسب المزيد من الوقت لمحاولة تصنيع أجهزة منافسة أو الإتيان بأفكار إبداعية . بغض
النظر عن السبب فالواقع اليوم يظهر لنا التفوق الكبير لأجهزة الآيفون والأندرويد
كماً وكيفاً والذي تتوالى إصداراتهم في فترات قصيرة لا تتجاوز في أغلب الأحيان عام
واحد. أما شركة البلاكبيري وغيرها من شركات الهواتف ايضاً كشركة نوكيا مثلاً ما
زالت تعاني الأمرين في تقديم الجديد بشكل قادر على التنافس في فترة زمنية وجيزة.
فمن الملاحظ أن تطور تقنيات الهواتف الذكية يعتبر الأبطأ في أجهزة البلاكبيري ونوكيا،
الأمر الذي جعل الأخيرة تتخلى تدريجيا عن نظام بيئتها المعهود (Symbian) والتعاون مع شركة مايكروسوفت لتحقيق التميز المنشود . أما شركة البلاكبيري
فما زالت تكابر في محاولة تطوير أجهزتها وبيئة نظامها الحالي بشكل يضمن لها
التنافس بقوة في المستقبل. فنفس التقنية التي ساهمت في تعزيز مكانة هواتف
الأندرويد والآيفون تتسبب اليوم بهدم تدريجي لمكانة هواتف أخرى وكأننا نشهد
قانوناً عالمياً للتقنية على غرار المثل القائل ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.