ما هي إلا أشهر أو سنوات معدودة وستواجه بعض مؤسساتنا الحكومية والخاصة معضلة التعامل مع البيانات الإلكترونية الضخمة، هذا إن لم تكن بدأت بالفعل بمواجهة هذه المعضلة اليوم. فقد أشارت دراسة أجرتها شركة (IBM) الأمريكية إلى أن العالم ينتج ما مقداره اثنان ونص اكسابايت من البيانات الإلكترونية يوميا، والاكسابايت يساوي تقريبا مليار جيجابايت من البيانات. كل هذا الكم الهائل من البيانات التي تحتاج لتجميع وتخزين وصيانة ومعالجة مما يكلف المؤسسات مصادر باهظة قد لا تتوفر لأكثرها في بعض الأحيان. انظر مثلا إلى قطاع البيع بالتجزئة كمحلات اللولو وكارفور في السلطنة وتخيل معي حجم البيانات التي تسجل يوميا من بيع وشراء وعمليات داخلية بين الموظفين وأخرى مع الموردين وحساب الأرباح والمصاريف وسداد رواتب الموظفين وحساب العلاوات وإصدار التقارير الدورية ومتابعة أخبار المنافسين وتحليل الأحوال الاقتصادية في الدول ومراجعة خطط التطوير والهيكلة ومتابعة تنفيذ المشروعات وغيرها. ناهيك طبعا عن عالم الإنترنت والشبكات الاجتماعية والذي اجبر المؤسسات على جمع وتحليل البيانات الإلكترونية التي تحدث في مواقعها الإلكترونية وجميع مواقع الشبكات الاجتماعية مما زاد الطين بللا. لا يقتصر هذا على القطاع الخاص، فمؤسساتنا الحكومية تجمع وتنتج من البيانات كما كبيرا سنويا أيضا كوزارة التربية والتعليم مثلا وبيانات الطلبة والمعلمين، ووزارة الصحة ممثلة في بيانات المرضى والعلاج، ووزارة القوى العاملة في بيانات العمالة الوطنية والوافدة في القطاع الخاص وجهاتنا الأمنية كالشرطة مثلا وبيانات الحوادث بأنواعها والمخالفات والأحوال المدنية. كل هذه البيانات القابلة للدمج والتكامل والتضاعف بشكل يومي، فما هي إلا سنوات بسيطة وسنبدأ بصرف الكثير من الأموال لمجاراة التكاثر الكبير في حجم البيانات المخزنة ربما بدون أدنى فكرة عن كيفية استغلالها للصالح الخاص والعام، فهلا وضعنا اليوم استراتيجية لكيفية التعامل مع هذه البيانات الضخمة بما يخدم التنمية في البلاد؟
اختلف الباحثون والمختصون في تحديد حد أدنى للبيانات إذا ما تجاوزته المؤسسة فقد دخلت بذلك نطاق البيانات الضخمة، فالأمر مرهون بقدرات المؤسسة على جمع وإدارة ومعالجة وصيانة البيانات الإلكترونية. فهناك من الشركات أو المؤسسات التي قد لا تستشعر المعضلة قبل أن يصل حجم بياناتها إلى مئات التيرابايت وهناك أخرى قد تبدأ بمواجهة الكثير من التحديات مع بضع جيجابايت من البيانات. بغض النظر عن حجم البيانات، فالإجماع هنا على أهمية استغلال هذه البيانات بما يرجع بالفائدة على المؤسسة أو الدولة لتبرير المصادر التي تصرف على نظم المعلومات التى تُعنى بهذه البيانات. فما فائدة هذه البيانات التي تخزن يوميا إن لم تكن لدينا خطة واستراتيجية لاستغلالها؟ انظر مثلا كيف ساهمت البيانات الضخمة في إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في عام ٢٠١٢ ليس فقط باستغلال مواقع الشبكات الاجتماعية للحملات الدعائية وتحليل آراء المشاركين، بل أيضا من خلال ألإعلان عن مبادرة الحكومة الفيدرالية الأمريكية للبحث والتطوير في قطاع البيانات الضخمة وتعميمها على مختلف المؤسسات الفيدرالية الأمريكية. الأمر الذي هدف ليس فقط لخدمة المؤسسات الحكومية فحسب بل أيضا لدعم قطاعات التعليم والأمن والصحة والهندسة بتوفير المعرفة الصحيحة بأحوال الناس وتوجهاتهم واستقراء نمطية العمل في المستقبل بعد تحليل الماضي.
من المهم اليوم في السلطنة أن نعي أهمية البيانات الضخمة وما توفره من فرص معرفية نستطيع أن نبني عليها استراتيجياتنا ومشروعاتنا واستثماراتنا في المستقبل. لا ينحصر الموضوع بطرق جمعها وتحليلها فقط بل يتعداه لوضع استراتيجية وطنية شاملة للبيانات الضخمة تُعنى بوضع خطة مدعومة بشكل رسمي وقانوني لدمج بيانات المؤسسات الحكومية والخاصة على سواء وفق ضوابط وآلية محددة. ليس بالضرورة أن تشارك المؤسسات بجميع بياناتها ولكن علينا أن نحدد البيانات الأساسية الواجب مشاركتها من اجل الصالح العام مع وضع القوانين التي تحفظ سرية وخصوصية بيانات الأفراد. أضف إلى ذلك مشاركة القطاع الخاص بمختلف مؤسساته في هذه المنظومة متى ما اقتضت الحاجة، فالقانون الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية يفرض على جميع الشركات العاملة بها مشاركة بياناتها خصوصا تلك الخاصة بالزبائن والموردين عندما تثار قضايا الأمن الوطني مثلا. وعليه فمتى ما توفرت هذه الاستراتيجية الوطنية وبدأنا في تنفيذها في السلطنة، سنستطيع أن نفهم ونتعلم مما مضى باستخدام تقنيات تعدين البيانات وسبل التخزين الحديثة لدعم قرارات المسؤولين باختلاف تخصصاتهم. سنتمكن مثلا وبشكل علمي من تحليل الفئات العمرية لمرتكبي الجرائم أو الحوادث المرورية باختلافها والعوامل المحيطة بها، أو مسببات تسرب الطلبة من المدارس وتدهور مستويات بعضهم، أو استقراء العوامل الاجتماعية والديمغرافية المحيطة بأكثر أنواع الأمراض انتشارا في البلاد وغيرها من المعلومات التي يصعب التكهن بها اليوم. لذلك فمن الأهمية بمكان اليوم أن نعطي للتقنية بعدا استراتيجيا في التخطيط والعمل فلم تعد عاملا مساعدا كما كان، وبدلا من أن ننتظر التفاعل مع البيانات الضخمة عندما نبدأ بتحسس تحدياتها، فهلا اصبحنا استباقيين في التحضير والتخطيط لها؟