كثيرا ما نسمع عن الاستراتيجيات في حياتنا العملية وعن ضرورة وضع استراتيجية لكل شيء تقريبا، فهناك الاستراتيجية الشاملة للبلاد باسم رؤية 2020 وهناك استراتيجية لقطاع التعليم تعكف عليها وزارة التربية والتعليم واستراتيجية للسياحة من قبل وزارة السياحة وأخرى خاصة بالمناطق الصناعية واستراتيجية رقمية لمشروع الحكومة الإلكترونية واستراتيجية للقطاع السمكي وغيرها كثير. ليس ذلك فحسب فأصبح اليوم لدينا مجلس أعلى للتخطيط يُعنى بهذه الاستراتيجيات الوطنية وأصبح حديث المسؤولين في الندوات والمؤتمرات هو ضرورة وضع الاستراتيجيات لمختلف الأعمال. حتى مشاريعنا الأقل حجما كمشروع صندوق الرفد مثلا سيوضع له استراتيجية للعمل، وهناك استراتيجية للتوظيف خاصة بالباحثين عن عمل وحتى البحوث العلمية والأكاديمية لم تبتعد عن هذا التوجه فأصبحت توصف أحيانا بالاستراتيجية بحسب حجمها ومدتها. ويستمر مسلسل الاستراتيجيات حتى أصبح لدينا اليوم برنامج تلفزيوني مميز باسم «استراتيجيات» للأسف دون أن نعي صغارا وكبارا جدوى وأبعاد هذا المصطلح ومضامينه، حتى بدأنا نرى في كلمة «استراتيجية» ما نراه عادة في مصطلح «لجنة»، المصطلح الإداري الذي يظهر التنظيم والتركيز ويخفي داخله قتل العمل وتأخيره.
كتبت سابقا عن موضوع التخطيط الاستراتيجي وأهميته على الجانب الفردي والاجتماعي والمؤسسي مؤكدا على أن من أكثر ما ينقصنا اليوم في السلطنة هو مهارة التخطيط بيننا بشكل عام وبين المسؤولين وأصحاب القرار بشكل خاص. فما أكثر ما نختلف على مصطلحي الرؤية والمهمة حتى أصبحنا نستعمل كلمة استراتيجية بمعنى خطة وشتان بين المصطلحين. ليس ذلك بمستغرب فلم نتعلم التخطيط الاستراتيجي في مدارسنا ولم نتدرب عليه في حياتنا إلا من خلال خطط الدولة الخمسية وهي خطط في مجملها قصيرة الأمد لم نشارك في وضعها. فأفضلنا اليوم يعتقد بأن الاستراتيجية ما هي إلا تحديد للرؤية والمهمة ومجموعة الأهداف الواجب تحقيقها بشكل قابل للقياس ومن بعد ذلك وضع الخطة اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، وما هذا كله إلا أدوات الاستراتيجية وليست الاستراتيجية بالنفس. يقول كين فافارو أحد كبار شركاء مجموعة (booz&co) إن على المؤسسات اليوم أن تحدد أولا قطاعات العمل التي ترغب في دخولها وبعد ذلك تخطط في كيفية الوصول إلى الامتياز فيها. يمكن أن يعمم هذا على مستوى الدول أيضا، فعليها أولا أن تحدد وتختار مجموعة القطاعات التي تريد أن تركز عليها بشكل تكاملي لتحقيق التنافسية العالمية والإقليمية بدلا من تشتيت الجهود بين جميع القطاعات الاقتصادية. للأسف نجد من الصعب أن نرى في السلطنة هذا التكامل في الرؤى والأهداف بين مختلف مشاريعنا الاستراتيجية. انظر مثلا إلى مشاريعنا الصناعية ومشاريعنا في قطاع السياحة وقطاعات الثروة السمكية والصحة والتعليم والنقل والاتصالات؟ كل منها للأسف يعمل بشكل كبير بمعزل عن الآخر وهو أساس مشكلة العمل البيني التي تحدثنا عنها الأسبوع الماضي. قد يقول قائل بأن جميعها ينصب في تنويع مصادر الدخل لتقليل الاعتماد على النفط وللأسف هذا أيضا هو الفكر المتواضع الذي يسيطر على أغلبنا. فتنوع مصادر الدخل لا يعني التشتت وإهدار الموارد بل يهدف للتركيز بتحديد القطاعات التي يمكن أن تساعدنا في تقليل الاعتماد على قطاع النفط والغاز، وأركز هنا على كلمة «تحديد» بدلا من كلمة «تنويع». فمن السذاجة اليوم أن نعتقد بأننا يمكن أن ننجح في تطوير جميع القطاعات بشكل تنافسي. نعم هناك حدود دنيا علينا معرفتها والعمل على إتمامها لجميع القطاعات خصوصا تلك التي تمس البنية الأساسية للبلاد ولكن علينا فقط أن نهدف لتحقيق التنافسية العالمية في بعض هذه القطاعات بعد تحليل مقومات البلد ومواطن تميزها بشكل يتكامل مع المشاريع الإقليمية ويراعي خصوصيتها.
في رأيي الخاص أجد قطاعي السياحة والغذاء من أكبر القطاعات الواعدة في السلطنة والتي يمكن أن تحقق لنا الاستدامة الاقتصادية المنشودة إذا ما أجدنا عملية لتخطيط. ففي السياحة يمكننا أن نركز على السياحة العائلية للدول العربية وسياحة الرحلات البحرية والبرية، وفي الغذاء يمكننا أن نركز على الأغذية العضوية كخيار صحي ليس فقط لدول المنطقة بل لدول العالم اجمع. ليس المقصود هنا أن نرجع بالبلاد إلى زمن البيادير (المزارعين) والعمل في الأرض بقدر ما نهدف لاختيار القطاعات التي تناسب طبيعتنا واحتياجاتنا. ألا تعتبر الزراعة والثروة السمكية هي أصل العمل في البلاد من قديم الأزل إلى يومنا هذا؟ ألا نرى ارتباط العماني الكبير بالأرض وتفانيه في خدمتها كجزء من موروثنا الأصيل، فلماذا نحاول أن نلبسه لباسا آخر؟ لطالما كانت عمان ومازالت بشكل خجول اليوم بلدا زراعية تمتد جذورها عميقا في التاريخ فلم لا نسعى لجعلها سلة الغذاء العضوي للدول العربية والإسلامية؟ يشاركني في هذا الرأي عيسى المهمولي أخصائي في قسم المحاصيل بكلية الزراعة بالجامعة والذي يرى بأن الغذاء العضوي الخالي من الكيماويات والهرمونات الصناعية يشكل قطاعا واعدا في العالم ونقصد هنا ليس فقط في الخضراوات والفواكه بل أيضا في استزراع أنواع الأغذية البحرية وصناعة اللحوم والدواجن بشكل صحي، ولنا في بعض المزارع الخاصة بالسلطنة تجربة في هذا الشأن. انظر إلى المساحات الزراعية الشاسعة في محافظات السلطنة والتي تختلف في طبيعتها ومناخها بشكل يجعلها مؤهلة لزراعة صنوف مختلفة من الفواكه والخضروات. وانظر إلى سواحلنا الممتدة التي يمكن أن تشكل لنا موردا مائيا لهذه المشاريع بالإضافة إلى صنوف الأغذية البحرية. ألا يشكل ذلك كسبا مزدوجا بتحقيقنا للتنافسية الدولية في قطاع واعد لا يضر بالبيئة مع ضمان البيئة الصحية والغذاء السليم لنا ولأجيالنا القادمة؟ ألا نشتكي اليوم من التلوث الصناعي في بعض مناطقنا المحلية وبالكم الهائل من أنواع الغش التجاري وكميات الفيتامينات والكيماويات الضارة التي تأتينا في مختلف مأكولاتنا المستوردة؟ ألا يحتاج العالم اجمع وليس فقط دول الخليج إلى بديل غذائي صحي مع تزايد الأمراض وانتشار الوعي بين الناس بمخاطر الأطعمة المصنعة مختبريا؟ فلماذا إذا لا نسعى لحيازة الدنيا بحذافيرها بتحقيق الاكتفاء الغذائي الصحي والبيئة السليمة للعيش الكريم تصديقا لقول الحبيب المصطفى «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا».