إقتحمت التقنية اليوم جميع جوانب الحياة وأصبحنا نعتمد عليها بشكل كبير في كثير من أمور معيشتنا. فمن منا يستطيع اليوم التخلي عن هاتفه النقّال أو جهاز حاسوبه الشخصي أو السيارة أو الإنترنت وغيرها من إنجازات التقدم التقني العالمي. فمما لا شك فيه أن للتقنية تأثيرات إيجابية في تحسين أسلوب حياة الفرد منا، فقد إستطاعت التقنيات الحديثة (بذكاء) أن تسهم في تنفيذ وتسيير أعمالنا بشكل سلس وسهل ومسلي في آن واحد. الأمر الذي يجعلنا نتسائل إن كان هذا الذكاء الصناعي في التقنية يمكن أن يثري من الذكاء الطبيعي في عقولنا وأذهاننا. وهل يمكن للتقنية الحديثة بكل ما وصلت له من تقدم علمي وعالمي، أن تسهم في إثراء معرفة الفرد منا وتكسبه مهارات وذكاء وقّاد أم أنها قد تسبب في زيادة البلادة والجهل بين الناس؟
قد ينقسم الناس هنا إلى قسمين أو ثلاثة، فهناك من يؤيد بأن التقنية تساهم (وأحياناً تجبر) الفرد منا على تعلم المهارات الجديدة خصوصاً تلك المطلوبة في سوق العمل وتلك التي تسهم في إثراء أساليب الحياة، فهي بذلك تساعد على تنمية الفكر وزيادة حدة الذكاء بتعلم كل ما هو جديد وربما التخلي بكل ما عفى عليه الدهر من معلومات وأساليب عمل قديمة وغير مجدية. وهناك من يضن العكس تماماً، فالتقنية بالنسبة إليه هي وسيلة لنسيان العلوم الأساسية كالجبر والهندسة مثلاً وغيرها من العلوم التي أستعيض عنها في كثير من الأحيان بالتقنية الحديثة. فهناك من بات يعتمد على الآلة الحاسبة في العمل بشكل كبير مما جعله ينسى كثيراً من جدول الضرب وربما وصل به الأمر أن يتشكك حتى في قدرته على جمع 5 + 8 مثلاً. وهناك من يستطيع اليوم بكل سهولة تطوير مخطط هندسي لمنزل دون أدني معرفة بعلم الهندسة المعمارية وبدون الحاجة لقضاء 5 سنوات من الدراسة الأكاديمية في كلية الهندسة. فالتقنية هنا قد أسهمت سلباً في تهميش بعض العلوم والمعارف التي طالما تغنى بها العلماء قديماً. أظف إلى ذلك أن كثير من التقنيات اليوم تستهدف وبشكل كبير الجانب الترفيهي فقط مما يجعل أطفالنا وشبابنا يمضون الساعات الطوال أمامها دون أدنى فائدة علمية أو فكرية تذكر. فهي بذلك تكون سبباً رئيساً في إهدار الوقت وتشتيت الأفكار وتقليل التركيز لدى أبنائنا الذين نعول عليهم كثيراً في حمل الراية في المستقبل.
وهناك قسم من الناس ممن يفضل الوسطية في التفكير ويعتقد بأن التقنية قد تنسيك بعض العلوم القديمة في مقابل إكسابك مهارات ومعارف جديدة. فلكل شيء ثمن، فإن أردت سرعة الإنجاز وإتقان العمل والحد من أخطاء البشر فالتقنية قد تعطيك ذلك في مقابل أن تنسيك (مع مرور الوقت) الطريقة التي يتم بها العمل بشكل يدوي. فمثلاً قد تنسيك التقنية طريقة رسم الزوايا والرسوم البيانية والأشكال الهندسية بإستخدام المسطرة والفرجار في مقابل إكسابك مهارة العمل في برنامج حاسوبي معين. كذلك هو الحال في آلات الحساب العلمية (scientific calculators) والتي قد تنسينا مع الوقت كيفية حساب اللوغارتمات وجذور الأرقام يدوياً وقس على ذلك.
في مقالة نشرتها صحيفة الوول ستريت (Wall Street) الشهر الماضي على موقعها الإلكتروني (www.wsj.com)، أظهرت الصحيفة إستنتاجات مخيفة قد تؤكد أن للتقنية تأثير سلبي على إدراك وفهم الفرد منا. فقد إستشهدت الصحيفة ببعض الدراسات والبحوث التي تشير إلى أن الناس التي تقرأ عن طريق مواقع الإنترنت والتي تحتوي على نصوص مرصعة بروابط (links) إلى مواقع أخرى، قد ينحدر مستوى الفهم لديهم بالمقارنة مع الناس الذين يقرؤون بالطريقة المعتادة من خلال نصوص خطية. كما تبين أن الأشخاص الذين يشاهدوا ويتعلموا بواسطة العروض متعددة الوسائط (multimedia presentations) قد تقل قدرة الحفظ لديهم عن أولئك الأشخاص الذين يتلقون العلم بطريقة أكثر تركيزاً وهدوءاً. أظف إلى ذلك أن تشتت الإنتباه والتركيز في العمل لدى الناس الناتج عن إستقبالهم لرسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية في الهاتف النقّال بين الفينة والأخرى قد تسهم في تدني مستوى الفهم لديهم. كما أن إنشغال الموظفين بأعمال متعددة (multitasking) مختلفة في آن واحد قد يجعلهم أقل إبداعاً وإنتاجية عن ما إذا كانوا مركزين في عمل واحد فقط. فالحصيلة من كل هذه البحوث والدراسات هي في أهمية "التركيز" على الفكر والفهم والذكاء. فالتركيز سر النجاح كما هو معروف، وإنشغال الناس وتلاهيهم الناتج من إستخداماتهم المختلفة للتقنية قد يتسبب في تدني الفهم والذكاء لديهم. أظف إلى ذلك أن التقنية قد تجعل منا أغبياء إن لم نحسن إستخدامها. فالتقنية فيها ما هو صالح وكذلك ما هو طالح والأمر برمته بأيدينا. فنحن من يجب أن نستغل التقنيات الحديثة أحسن إستغلال وأن نتجنب سلبيات التقنية والتي قد تنتج من سوء الإستخدام أو خطأ الإختيار أو قلة التوجيه. فيجب علينا العمل على إختيار التقنية الحديثة المفيدة وفي نفس الوقت الإنتباه إلى كيفية إستخدامها بإعتدال وحذر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق